الحكومات والشعوب أينما كانت هي التي تَصْنَع الرجل الدكتاتور الخارج عن إطار الدستور والقانون، والمُترفع عن المحاسبة والمراقبة، فمثل هذا الرجل لا يُولَد من فراغ، وإنما يخرج مباشرة من رحم قرارات الحكومات التنفيذية، أو السلطات القضائية والمحاكم الدستورية العليا، أو من خلال صمت ومباركة الشعوب وتصفيقها وتمجيدها وتقديسها لهذا الرجل الفذ من باب المجالس النيابية التشريعية.
فمن يتوقع أن دولة عريقة راسخة منذ أكثر من 248 عاماً في الديمقراطية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أن تغرس الآن وبعد أكثر من قرنين من الممارسة الديمقراطية البذرة الأولى في الأرض للولادة الرسمية القانونية للدكتاتور الأمريكي الأول غير المسبوقة في تاريخها الطويل.
وهذه البذرة زرعتها في هذه الحالة المحكمة الاتحادية العليا Supreme) Court)، وهي أعلى سلطة قضائية اتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عندما اتخذت في الأول من يوليو 2024 قراراً فريداً من نوعه في تاريخ القضاء الأمريكي عند النظر في قضية حصانة الرئيس الأمريكي، والتي عُرفت بقضية: «ترامب ضد الولايات المتحدة». ويتلخص الحكم في إعطاء الرئيس الأمريكي «حصانة مطلقة» (absoluteimmunity) عن جميع الأعمال التنفيذية اليومية التي يقوم بها أثناء فترة عمله، وأثناء حكمه ورئاسته للبيت الأبيض تحت باب «الأعمال الرسمية» (official acts). أي أن كل عملٍ يقوم به الرئيس تحت هذا البند، وتحت هذا التصنيف للأعمال فهو لا يُسأل عنه، ولا يحاسب عليه من أحد، لا سلطة قضائية، ولا سلطة الكونجرس، ولا السلطة الإعلامية الرابعة في الدولة، وهو ما يعني أن الرئيس سيكون بمنأى عن الملاحقة القضائية والمحاسبة القانونية، والمساءلة الشعبية، والعقاب عن كل ما يقوم به من أعمال حكومية رسمية مهما كان حجمها ونوعها وشدتها. فقد جاء نص القرار كما يلي: «بموجب هيكلنا الدستوري للسلطات المنفصلة، فإن طبيعة السلطة الرئاسية تُخول للرئيس السابق حصانة مطلقة من الملاحقة الجنائية عن أفعال ضمن سلطته الدستورية القاطعة والوقائية». كما جاء فيه: «ويحق له على الأقل الحصانة المفترضة من الملاحقة القضائية عن جميع أفعاله الرسمية، ولا توجد حصانة من الأعمال غير الرسمية».
فمثل هذا الحكم من أعلى سلطة وجهاز قضائي فيدرالي في تقديري قد وضع الطوب الأول، واللبنة الأولى في بناء الدولة الدكتاتورية، وتكوين وصناعة الحاكم المستبد الطاغية. كما يفتح الباب على مصراعيه، ليس في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، وإنما في باقي دول العالم، للمضي قُدما نحو النظام الدكتاتوري، ويمهد الطريق نحو نظام حكم الفرد الذي لا يخطئ، ولا يحاسب، ولا تُراقب أفعاله مهما كانت تحت ذريعة «الأعمال الحكومية الرسمية» ومن ضمن الواجبات التي يقوم بها كرئيس للدولة.
فقرار المحكمة الاتحادية العليا التي تتكون من 9 أعضاء، 6 منهم من الجمهوريين المحافظين الذين تم تعيينهم من الرؤساء المنتمين الى الحزب الجمهوري، ومن هؤلاء 3 تم تعيينهم من ترامب نفسه عندما كان رئيساً، و3 الباقي منهم من الوسط والليبراليين. ولذلك جاء حكم المحكمة «حزبياً» بموافقة جميع القضاة التابعين والموالين للحزب الجمهوري الذي يصب في مصلحة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب الذي يعاني من إدانات قضائية كثيرة في قضايا إجرامية وأخلاقية ومدنية.
فهذا الدكتاتور الذي زرعه الحزب الجمهوري باستخدام أداة السلطة القضائية سيتمكن الآن من التهرب من كل الأحكام القضائية التي أُدين بها، إضافة إلى الأحكام الأخرى القادمة، وسينجح في اسقاطها جميعاً تحت ذريعة الحصانة المطلقة التي يتمتع بها الرئيس الأمريكي، وسيُبرر جميع هذه الممارسات «الإجرامية» التي قام بها أثناء فترة وجوده في البيت الأبيض بأنها كانت ضمن مهماته وأعماله «الرسمية» كرئيس دولة.
فعلى سبيل المثال، سيُبرر محاولته إسقاط نتائج الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في نوفمبر 2020 عن طريق تشجيع وحث المتظاهرين للزحف إلى مبنى الكونجرس واحتلاله، معقل الديمقراطية الأمريكية العريق، بأنه عمل حكومي «رسمي» وضمن واجباته كرئيس. كما أن ضغطه على نائب الرئيس، ووزارة العدل للإطاحة بالحكومة ومنع تصديق الكونجرس على نتائج الانتخابات سيكون بحجة أنه من ضمن «الأعمال الرسمية» أو الواجبات الرسمية. كذلك بالنسبة الى القضايا الأخرى كقضية سرقت الملفات الحكومية السرية الرسمية ووضعها في بيته الخاص، إضافة إلى القضية الجنائية التي أُدين فيها في 30 مايو 2024، حيث قررت المحكمة بالإجماع على أنه مذنب في جميع التهم وعددها 34.
ولذلك في تقديري، فإن قرار المحكمة العليا الأمريكية يعد سابقة خطيرة يهدد استدامة الديمقراطية ليس في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، وإنما ينعكس صداه وينكشف تأثيره بشدة على باقي دول العالم التي تعتبر الولايات المتحدة قدوة لها في أنظمتها، وقوانينها، وسياساتها.
فمثل هذه الحصانة المطلقة للأعمال الرسمية التي يقوم بها أي رئيس هو تحفيز وتشجيع لتكوين الرئيس الدكتاتور ذات الصلاحيات الشاملة، وخاصة للرؤساء الذين لديهم نزعة فطرية داخلية للحكم الفردي والنظام الاستبدادي، والحب نحو السلطة الشمولية التي لا ينازعه فيها أحد، إضافة إلى وجود الرغبة الشخصية المستميتة للسلطة والحكم الأبدي وتطويع وترهيب كافة السلطات الأخرى في الدولة تحت هيمنته وسلطته الخالصة. وفي الوقت نفسه، فإن مثل هذه الحصانة تجنبه الملاحقات القضائية عن أي ممارسات وأعمال خاطئة يقوم بها، حيث يُصنِّفها بأنها أعمال رسمية، مهما قُدِّمت ضده من أدلة وبراهين واثباتات.
كما أن مثل هذا الحكم يهدد حرية الشعوب وحقها في إبداء الرأي والمحاسبة والمساءلة لكل مسؤول في الدولة، فالحاكم الذي له نزعة شخصية للاستبداد بالرأي سيستغل هذا الحكم أسوأ استغلال، فيستطيع بحجة الحصانة والقيام بأعمال الحكم والدولة الرسمية أن يعاقب أي مواطن لا يعجبه لأي سبب من الأسباب، فيُلفق له التهم التي لا نهاية لها مثل أن هذا الشخص إرهابي ويهز عرش الحكومة، أو أنه يشكل تهديداً للأمن القومي، أو أنه خطر على السلم الأهلي والدولي.
وكلي أمل ألا يمتد تطبيق مثل هذا الحكم غير الديمقراطي والمشجع للحكم الاستبدادي إلى الدول الأخرى حول العالم.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك