تهدف الألعاب الأولمبية إلى الاحتفاء بالتميز الرياضي، والاعتراف بأهمية الرياضة في جمع الشعوب من جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، فإن دورة 2024، التي انطلقت في 26 يوليو وتستمر حتى 11 أغسطس في العاصمة الفرنسية باريس، قد طغت عليها الصراعات المستمرة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة.
وكانت إسرائيل من بين الدول المشاركة في أولمبياد 2024 في باريس، واستقبل الجمهور والمتنافسون الآخرون تلك المشاركة بمشاعر غضب وإحباط؛ إزاء عدم تسبب الحرب في غزة في خلق إدانة دولية مؤثرة، أو أي نوع من المساءلة لها. وكتبت «إيفون ريدلي» في موقع «ميدل إيست مونيتور»، كيف وقّع «ملايين الأشخاص» في جميع أنحاء العالم «على عرائض تدعو اللجنة الأولمبية الدولية إلى حظر إسرائيل من المشاركة». وحث «توماس باخ» رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، على استخدام «القوة الهائلة» للمقاطعات الرياضية من أجل وقف العدوان الإسرائيل ودعم المدنيين الفلسطينيين. كما دعا 26 برلمانيًا فرنسيًا في فبراير 2024 اللجنة الأولمبية الدولية إلى منع الرياضيين الإسرائيليين من المشاركة تحت علمهم، وحث «توماس بورتيس» نائب بالبرلمان عن حزب «فرنسا الأبية»، الناس على «استخدام كل الوسائل المتاحة لتعبئة» المظاهرات ضد حضور إسرائيل في الألعاب الأولمبية هذا العام.
وعلى الرغم من الصرخة العالمية الهائلة التي طالبت بمنع إسرائيل من المشاركة في الألعاب الأولمبية وفقًا للقوانين التي في ضوئها استُبعدت بلدان أخرى لانتهاكها القانون الدولي وحقوق الإنسان، وحرمانها من المشاركة في المسابقات الرياضية الدولية مثل الألعاب الأولمبية، إلا أن «توماس باخ» رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، أصر على أنه لن يسمح لمنظمته بالتورط فيما أسماه «الأعمال السياسية».
تجاهل «باخ» برده هذا حقيقة أن الحكومة والجيش الإسرائيليين يواجهان حاليًا محاكمة بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وأن رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو» ووزير الدفاع «يوآف جالانت» قد يخضعان قريبًا لأوامر اعتقال دولية صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، لقتلهم ما لا يقل عن 39 ألف مدني فلسطيني وتخليف أضرار جسيمة في غزة، ستستغرق عقوداً من الزمن لإصلاحها بتكلفة مليارات الدولارات.
وتجاهل «باخ» كذلك أن اللجنة الأولمبية الدولية سابقًا قد تبنت مواقف بارزة اضُطرت معها إلى التصرف وفقًا للمزاج العالمي الذي يدين دولة أو عدة دول بسبب انتهاكات جسيمة لسيادة القانون الدولي وحقوق الإنسان. وتتجلى أبرز الأمثلة التاريخية في الحظر الذي فرض على جنوب إفريقيا إبان فترة الفصل العنصري منذ ستينيات القرن الماضي حتى تخلت البلاد عن نظامها السياسي التمييزي، وكذلك روديسيا (زيمبابوي حاليًا) لأسباب عنصرية مماثلة.
ومن بين الدول التي تم حظرها من المشاركة أيضًا الدول التي قد خسرت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وروسيا التي تم تمديد استبعادها بسبب قرار «فلاديمير بوتين» بشن عملية عسكرية في أوكرانيا عام 2022، وأثارت «ريدلي كيف» أن منع روسيا من التمثيل بالأولمبيات جراء تهم مماثلة للغاية لتلك التي وجهتها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية إلى إسرائيل، هو ما «لفت الانتباه إلى المعايير المزدوجة لاستبعاد روسيا مع السماح لإسرائيل بالمشاركة» في أولمبيات باريس عام 2024.
وقد أوضح الدكتور «روب سكينر» الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث بجامعة بريستول، أن حظر المشاركة في الألعاب الأولمبية لا يفسر فقط على أنه «رغبة بعدم المشاركة فحسب، ولكنه أيضًا يتصور على أنه «تجاهل تام وسخرية وازدراء لأي نوع من النظام الدولي ... وكيف تحاسب الدول بعضها البعض». ففي حالة جنوب أفريقيا، التي مُنعت في عام 1964 من المشاركة في الألعاب الأولمبية في طوكيو بعد رفضها التخلي عن التمييز والفصل العنصري، ظل هذا الحظر قائمًا لمدة ثلاثين عامًا تقريبًا - حتى عام 1991. واستنادا إلى هذا الأمر، فإن مثل هذا الضغط الدولي «ساعد في إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بشكل أسرع».
ويذكر اللورد «بيتر هين» وزير شؤون الشرق الأوسط ووزير أيرلندا الشمالية السابق، كيف قاد حملة الناشطين «أوقفوا جولة السبعين» لمنع فريق الكريكيت في جنوب أفريقيا العنصري من القيام بجولة في المملكة المتحدة في عام 1970 وزيارة إنجلترا والتجول فيها في السبعينيات وما لها من «تأثير عميق» للضغط على حكومة الفصل العنصري.
ومع تأكيد منظمات حقوق الإنسان مثل «هيومن رايتس، ووتش، ومنظمة العفو الدولية» أن إسرائيل أسست نظاماً سياسيًا واجتماعيًا للفصل العنصري؛ لإخضاع الفلسطينيين في كل من الأراضي المحتلة وإسرائيل نفسها، فيجب التساؤل هنا لماذا لم تصدر اللجنة الأولمبية الدولية نفس العقوبة ضد إسرائيل في ظل الفصل العنصري كما فعلت ضد جنوب إفريقيا؟
وقد أشار «توبي رايدر» الأستاذ المشارك في جامعة ولاية كاليفورنيا في فوليرتون والمتخصص في تاريخ الرياضة، أن «الأمر يتطلب إجراءات صعبة من اللجنة الأولمبية الدولية لحظر مشاركة أي دولة» وأن «الضغوط الخارجية تكون كبيرة عادةً لدرجة أنه لا يوجد لدى اللجنة خيار آخر».
ومع ذلك، بعد أن أعلنت اللجنة ذلك الحظر ضد روسيا، كان من الضروري استجابة «باخ» للناشطين المؤيدين للفلسطينيين، وجماعات حقوق الإنسان، ويعبر عن «دعمه للرياضيين الفلسطينيين في الأوضاع الصعبة» التي يواجهونها من خلال حظر إسرائيل، كما نددت «ريدلي» بكيفية عدم وجود قيادة تذكر «اللجنة الأولمبية الدولية» بانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان للفلسطينيين وتجاهلها المتكرر للقانون الدولي.
ومع رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) اتخاذ أي قرار بمنع مشاركة إسرائيل في مسابقاتها وأنشطتها الرياضية، فقد أثيرت أهمية المقاطعات غير الرسمية لإسرائيل وإظهار حالة من الاستياء من جانب الدول كوسيلة للضغط عليها، واستشهد «كيفن باكستر» بصحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية، باستقبال الرياضيين الإسرائيليين، الذين يواصلون السفر عبر العالم أجمع، من قبل حشود كبيرة من الناشطين المؤيدين للفلسطينيين في بطولة السوفتبول في كندا، ومباراة اسكتلندا وإسرائيل، في ذهاب تصفيات يورو 2025 لكرة القدم للسيدات، في اسكتلندا، وأخيرا أثناء المشاركة في سباق للدراجات الهوائية بأستراليا.
وهنا يتضح أن اختيار المنظمات الرياضية الدولية عدم ارتباطها بأي أنشطة إما مع إسرائيل بشكل مباشر أو بتلك التي تستمر في الترحيب بالفرق الرياضية الإسرائيلية أمر غاية في الأهمية، ولا يمكن التقليل من شأنه باعتباره خطوة طويلة الأجل لتأكيد الغضب العالمي إزاء الممارسات التي مارستها حكومة إسرائيل وجيشها ضد الفلسطينيين، وأن تاريخ الدول التي فشلت في احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان والتي تم منعها أو حظرها من المشاركة في الألعاب الأولمبية يؤكد كيف أن مثل هذا الحظر ضد إسرائيل مع انتهاكاتها لحقوق الشعب الفلسطيني يندرج ضمن هذه الفئة من الدول.
ورغم أن الحكومة الإسرائيلية لن تغير سياساتها تجاه الفلسطينيين أو الشرق الأوسط الأوسع لمجرد قرارات صادرة عن الاتحادات والمنظمات الرياضية وحدها، فإن الإدانة من جانب هذه الاتحادات، بالإضافة إلى انتقادات منظمات حقوق الإنسان، وأحكام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، من شأنه أن يراكم ضغوطًا سياسية واجتماعية، لإرغام إسرائيل على تغيير أساليبها، تماماً كما فعلت جنوب إفريقيا قبل أكثر من ثلاثة عقود حتى تخلت البلاد عن نظامها السياسي التمييزي.
ولكن يبقى تجاهل الرياضيين الإسرائيليين في باريس لا يقارن على الإطلاق بالصعوبات الهائلة التي يجابهها الرياضيون الفلسطينيون. وفي حين أصر متحدث باسم اللجنة الأولمبية الدولية على أن الرياضيين الإسرائيليين سيستمرون في الحصول على «تأمين جيد وقوي للغاية» طيلة وجودهم في فرنسا، فقد أثارت اللجنة الأولمبية الفلسطينية ـ التي قادت الدعوات داخل الدوائر الرياضية لحظر إسرائيل ـ قضية حرمان ثمانية من الرياضيين المشاركين، بما في ذلك بعضهم من غزة، من المرور الآمن «إلى الألعاب و«عانوا بشكل كبير جراء الصراع المستمر». كما سُجل مقتل ما يقرب من 400 رياضي فلسطيني حتى الآن بسبب الحرب الإسرائيلية، فضلا عن تدمير جميع المرافق الرياضية داخل غزة.
على العموم فإنه رغم أن إسرائيل ليست بالدولة ذات التاريخ الرياضي العريق، بالإضافة إلى قلة عدد رياضييها الذين ترسلهم إلى الألعاب الأولمبية، فإن الثقل الرمزي لحظر اللجنة الأولمبية الدولية، إلى جانب عقوبات مماثلة من جانب هيئات رياضية أخرى، من شأنه تعزيز الإدانة الدولية المتزايدة والضغوط ضد حكومة إسرائيل، ويؤكد أن العالم ليس مستعدًا لمجرد مشاهدة تدمير غزة وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك