في يومنا هذا، حيث تتحكم التكنولوجيا في مسار حياتنا وتفاصيلها، نجد أنفسنا محاطين بالشاشات والأجهزة الذكية. من الهواتف التي لا تفارق أحضاننا إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تبقي العالم بين أيدينا، تبدو التكنولوجيا وكأنها تفتح لنا أبوابا لا نهائية من الفرص. لكن، هل نحن سعداء حقا في هذا العالم الرقمي؟
على الرغم من أن التكنولوجيا تقلص المسافات الجغرافية، فإنها قد تجعلنا نشعر بالعزلة النفسية، كون التفاعل الرقمي ليس بديلاً كافياً للدفء الإنساني والمحادثات الودية العميقة، ولأنه يفتقر إلى العناصر الإنسانية الأساسية مثل التعبيرات الوجهية ولغة الجسد، مما يجعله أقل إشباعاً مقارنة بالتفاعل المباشر. أصبحنا نقيس مكانتنا ومدى قبولنا من خلال عدد الإعجابات والمشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يزيد من شعورنا بالفراغ والخواء الداخلي.
العلاقات الإنسانية تسهم بشكل كبير في تحقيق الراحة والطمأنينة. إذ إن الشعور بالانتماء والتقدير بلا شك يعزز صحتنا النفسية ويضفي على حياتنا جمالاً ورونقا لا مثيل له. كذلك التواصل الفعال مع الأصدقاء والأحباء والعائلة، والانخراط في مجتمعات مساندة، يساعد في بناء شبكة تأييد قوية تمنحنا الشعور بالارتياح والأمان.
وفقا لدراسة من جامعة هارفارد تعرف بـ«دراسة تطوير البالغين»، التي استمرت أكثر من 75 عاما، وُجد أن العلاقات الجيدة هي المفتاح لحياة سعيدة وصحية. الأشخاص الذين يتمتعون بعلاقات قوية مع العائلة والأصدقاء والمجتمع ليسوا فقط أكثر سعادة، بل يتمتعون بصحة أفضل مقارنة بمن يعانون من العزلة والخلافات العائلية.
في نهاية المطاف، نحن مخلوقات اجتماعية، والعلاقات الإنسانية الجيدة تضيء حياتنا وتمنحها معنى أوسع.
السعي نحو تحسين الذات يعزز من شعورنا بالإنجاز والرضا. عندما نتعلم أشياء جديدة أو نطور مهارة، نشعر بالامتنان. الفيلسوف الصيني لاو تزو يعبر عن القناعة بأنها حالة من السلام الداخلي، بغض النظر عن الظروف الخارجية. ومن جانبه، يرى المعلم الروحي الهندي سادغورو أن الرضا حالة داخلية نعيشها، وليست شيئا نحصل عليه من الخارج. أما الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل فيقول: «أفضل حياة هي تلك التي تتضمن أعلى درجات السعادة، وذلك من خلال تطوير الذات وتحقيق الإمكانيات الفردية».
تصنف الصحة الجيدة والروحانية من أسرار الراحة النفسية. عندما نحرص على تناول طعام صحي، نمارس الرياضة بانتظام وننام بشكل كاف، نشعر بفرق كبير في أجسامنا وعقولنا. كما تضيف الروحانية بعدًا جميلا إلى حياتنا، سواء من خلال الصلاة أو التأمل، فهي تمنحنا السلام الداخلي والاتزان. إذ يعد الاهتمام بهذه الجوانب بمثابة الوقود الذي يحفزنا نحو تحسين الذات والرضا، ويشعرنا بالانتماء والدعم. بالتوازن بين الصحة الجسدية والروحانية، يمكننا الاستمتاع بحياة يومية مليئة بالراحة والرضا.
التوازن بين العمل والحياة الخاصة، ورسم حدود واضحة بينهما، والاستمتاع بالهوايات والأنشطة المحببة، من الامور المهمة للغاية، حيث أظهرت أبحاث من «جمعية علم النفس الأمريكية» (APA) أن التوازن بين العمل والحياة الشخصية يؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية والبدنية للأفراد، حيث أوضحت أن الأشخاص الذين يخصصون وقتا للراحة والهوايات يمتلكون مستويات أقل من التوتر والقلق، الذي بدوره يسهم في تحسين جودة حياتهم بشكل عام.
إضافة إلى ذلك، فإن المرونة النفسية هي مهارة مهمة تساعدنا على التعامل مع التحديات والصعوبات اليومية. تطوير هذه المهارة يمكن أن يجعلنا أكثر قدرة على التعامل مع الضغوطات والتغييرات غير المتوقعة بثبات وهدوء. لتعزيز هذه المرونة، يمكننا اتباع بعض الخطوات العملية مثل:
- تبني نظرة متفائلة تنطلق من معطيات واقعية، وذلك عن طريق محاولة رؤية الجانب الإيجابي في المواقف الصعبة.
- التعلم من التجارب السابقة: الاستفادة من الخبرات الماضية لتحسين ردود أفعالنا في المستقبل.
- الاحتفاظ بعلاقات دعم دافئة: البقاء على اتصال مع الأصدقاء والعائلة للحصول على الدعم العاطفي.
هذه الاستراتيجيات العملية تساعدنا على التكيف مع الظروف الصعبة والحفاظ على اتزاننا النفسي والعاطفي.
في كتابه »رأسمالية الرضا«، يقدم أكسل بوشون استنتاجات من علم الأعصاب والتكنولوجيا حول كيفية تحسين حياة الناس. يوضح بوشون أن الشعور بالارتياح يعتمد على عدة عوامل، منها التواصل مع الأصدقاء والأشخاص الإيجابيين، الاهتمام بالصحة الجسدية والعقلية، التفاعل مع الفن والموسيقى، والتفكير في الآخرين والعمل الخيري.
الرضا مزيج من اللحظات البسيطة والاختيارات اليومية. هو القناعة بما نحن عليه، والسعي لما نطمح إليه، العناية بأنفسنا ومن نحب. السعادة أو الرضا ليست هدفا بعيد المنال، بل هما هنا، في كل يوم نعيشه بكل تفاصيله. الحياة مليئة بالخيارات، ويمكن دائما اتخاذ القرار بأن نكون راضين. دعونا نعيش هذه الرحلة بوعي، ونستمتع بكل لحظة، ونعمل على نشر الارتياح في حياتنا وحياة من حولنا.
فالاهتمام بالعلاقات الإنسانية، والسعي الدائم لتحسين الذات والروحانية، والحرص على اللحظات الصغيرة التي نقضيها مع العائلة والأصدقاء، والابتسامة الصادقة، كلها تشكل نسيج السعادة الحقيقية. لا ندع التكنولوجيا تسرق منا أوقاتنا الثمينة. لنبحث عن التوازن الذي يناسب كل منا، ولنحتضن كل يوم بكل تفاصيله. في نهاية المطاف، نحن من نصنع سعادتنا، لنجعل من حياتنا قصة تستحق أن تروى.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك