على الرغم من حدة الانخفاضات التي حدثت في أسواق المال العالمية، يومي الخميس والجمعة الماضيين، فإن توصيف ما حدث شهد تباينا كبيرا، فالبعض أكد، خاصة في اليابان والولايات المتحدة، أن العامل الرئيسي في تفسير ما جرى هو عملية تصحيح بعد أن كانت سوق الأسهم بطوكيو ونيويورك قد تمددت فيها الأسعار إلى مستويات غير منطقية، في المقابل اعتبرت الأغلبية أن هبوط الأسهم بهذا الشكل الحاد هو انعكاس لمخاوف حقيقية من احتمال سقوط الاقتصاد الأمريكي في نوع من الركود أو حدوث تباطؤ ملحوظ فيه. جاءت الضربة القوية للأسواق عقب تقرير وظائف وصف بأنه سيئ يوم الجمعة بأمريكا، ظهر منه أن الاقتصاد خلق فرص عمل جديدة أقل من المتوقع، وارتفع مستوى البطالة، مع انكشاف منغصات أخرى في سوق العمل الأمريكية من ناحية الأجور، ومعدلات الاستقالة التي تعكس الثقة أو ضعف الثقة في وجود بدائل، مع إشارة إلى أن نمو الوظائف، حتى مع ضعفه هذا، حافظ على كونه موجبا لأكثر من أربعين شهرا على التوالي، وقد انخفض مؤشر داو جونز 800 نقطة أو 2,3 في المائة، وتراجع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 2,6 في المائة، ومؤشر ناسداك بنسبة 3,1 في المائة. في أعقاب ظهور تقرير الوظائف ذاك، إلى جانب مؤثرات سلبية أخرى كان لها انعكاسها على الأسواق، مثل انخفاض أرباح شركات البترول وشركات التكنولوجيا مع بعض خيبة أمل بخصوص التوقعات من وراء الذكاء الاصطناعي، وعلى خلفية كل ذلك تراقب الأسواق تراجع التصنيع في كل من الصين وأمريكا، وبالتبعية ضعف الطلب على النفط.
ولأن الانخفاض في المؤشرات الرئيسية بأسواق المال في أمريكا واليابان خاصة كان غير مسبوق إجمالا منذ جائحة كورونا، فقد عادت التساؤلات حول مدى صحة قرار المركزي الأمريكي بتثبيت الفائدة الأربعاء الماضي، وهل أخطأ بالتأخر في خفض الفائدة مثلما كان قد أخطأ في نظر ذات المحللين في رفعها عند بداية صعود التضخم، ما أدى في المحصلة إلى هذا الهبوط في الأسواق، أم هناك عوامل أخرى خفية؟ لقد تصاعد الرهان على أن الفيدرالي الأمريكي سيبدأ خفض الفائدة في سبتمبر المقبل، بل وراح البعض يطالب، أو ربما يضغط أو يتمنى خفض نصف نقطة وليس ربع نقطة، حسبما فهم المحللون من الإشارة الغامضة لمحافظ الفيدرالي مؤخرا.
ولم تتم الإشارة في الكثير من التحليلات إلى المخاطر الجيوستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط على خطرها، أو لم يتم التركيز عليها في التحليلات، وتجاهلت قنوات الميديا الرئيسية الأوروبية الحدث إلى حد بعيد، رغم هبوط مؤشرات أغلبها ولكن بشكل طفيف، وأبرزت البيانات السنوية أن معظم المؤشرات التي انخفضت بقوة لا تزال محققة مكاسب كبيرة على مدار سنة، وقد برز عنصر جديد يدعم ارتفاع مؤشر خوف المستثمرين ليسجل أعلى مستوى في 17 شهرا، مع ما يمكن وصفه بحالة من شبه الذعر وعدم اليقين التي تسيطر على الأسواق، هذا العنصر هو خيبة الأمل في شأن أداء الشركات الكبرى المعنية بتطوير استخدامات الذكاء الاصطناعي، وأيضا الشعور القوي الذي عبر عنه محللون في الصين وأمريكا بشكل خاص بأن نموذجا جديدا لدورة الأعمال والمنافسة وطبيعة المنتجات يتخلق، وحيث لم تتضح ملامحه بعد، فإن الخوف وعدم اليقين ونوع من الفوضى هي الحلول التي تطرح نفسها في مثل هذه الأوقات.
أكبر دليل على ذلك أنه كان من المفترض أن يواصل الذهب الاتجاه الصعودي ويكسر المستوى القياسي الذي حققه في ظل عدم اليقين وباعتباره الملاذ الآمن، ولكن الواقع أن الذهب تراجع في البورصات العالمية بعد أن قفز يوم الخميس، بسبب قيام مسؤولي صناديق التحوط بخفض مشترياتهم منه لأسباب غير واضحة، أو لأنهم فضلوا توجيه السيولة لشراء الأسهم ذات التقييمات الجيدة، التي انخفضت بشدة الخميس والجمعة ولديها فرص صعود، هذا فضلا عن احتمال تراجع بريق الذهب نسبيا في الأوقات المقبلة، مع إعلان ترامب تشجيعه للأصول الرقمية كاحتياطي لدى الفيدرالي لو فاز بالرئاسة، وقيام روسيا رسميا بإصدار تشريع منظم للعملات المشفرة برعاية المركزي الروسي.
بطبيعة الحال فالجميع يترقب حاليا موقف الفيدرالي الأمريكي، خلال اجتماعه سبتمبر المقبل، وما يصدر عنه من إشارات للأسواق.. وهل يستجيب هذه المرة للمؤشرات الخاصة بتراجع التضخم ويوافق على استئناف دورة التيسير النقدي ويبدأ رحلة خفض الفائدة، أو يواصل أخطاءه كما وصفها العريان؟ مع الإشارة إلى أن الفيدرالي كان خلال الفترة الماضية ينظر بشكل أكبر إلى الحفاظ على قوة العملة الأمريكية قبل النظر إلى غيره من العوامل، وقوة العملة كما نعلم ترتبط بالفائدة المرتفعة وتقود إلى جذب تدفقات من كل أنحاء العالم إلى أمريكا وتحبط كل من يحاولون منافسة الدولار. في المقابل، فان ضعف الدولار (وترامب ينحاز إلى مدرسة الدولار الضعيف) يقود إلى دعم قطاع التصدير الأمريكي وزيادة عوائده وبالطبع ارتفاع أسهم الشركات التي تصدر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك