إن الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً للولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء كلمة أمام جلسة مشتركة للكونجرس في الرابع والعشرين من شهر يوليو الماضي قدمت للمراقبين الكثير مما يمكنهم استيعابه.
كانت تلك الدعوة الرابعة من نوعها التي توجه إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي -أكثر من أي زعيم عالمي آخر في التاريخ (متجاوزًا ونستون تشرشل من المملكة المتحدة الذي قام بالرحلة عبر المحيط الأطلسي لإلقاء كلمة أمام الكونجرس في ثلاث مناسبات).
وكما كان الحال في الزيارات الثلاث السابقة، فقد استخدم كل من بنيامين نتنياهو ورئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون هذه الدعوة الأخيرة بهدف خدمة أغراضهما السياسية الخاصة.
وفي هذه المرة، سعى رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون إلى استغلال خطاب بنيامين نتنياهو لإحراج الرئيس الأمريكي جو بايدن وتعزيز جهود الجمهوريين لجعل الدعم لإسرائيل «قضية خلافية» في الانتخابات المقبلة.
كان بنيامين نتنياهو على استعداد تام للتوافق مع لعبة جونسون لأنه كان ينظر منذ فترة طويلة إلى قطاعات وأطراف واسعة من الحزب الجمهوري كشريك أكثر موثوقية لإسرائيل من المجتمع اليهودي الأمريكي الأكثر ميلاً إلى الليبرالية.
ولهذا السبب كان بنيامين نتنياهو على مدى العقود العديدة الماضية يتودد إلى الزعماء الجمهوريين وقبل ثلاث دعوات جمهورية أخرى لتحدي الرؤساء الديمقراطيين ــ بيل كلينتون (بخصوص عملية أوسلو) في عام 1995 وباراك أوباما في عام 2011 (بخصوص حدود إسرائيل السائدة قبل الحرب العربية-الإسرائيلية في عام 1967) وفي عام 2015 (بخصوص الاتفاق النووي الإيراني).
وربما يكون هناك عامل آخر يكمن وراء حرص بنيامين نتنياهو على التحدث إلى الكونجرس الأمريكي، ألا وهو إظهار سيطرته على السياسة الأمريكية أمام الجمهور الإسرائيلي الذي انقلب ضد حكمه.
ربما يكون جونسون قد سجل نقطة نحو هدفه، لكن قد يكون ذلك انتصارا باهظ الثمن. فقد حضر الجمهوريون بأعداد كبيرة وأعطوا رئيس الوزراء الإسرائيلي تصفيقا حارا خلال خطابه الذي استمر ساعة واحدة، فيما قاطعه أكثر من ربع الديمقراطيين، وجلس العديد من الحاضرين صامتين، رافضين الوقوف أو التصفيق.
كان خطاب بنيامين نتنياهو نفسه عبارة عن مزيج مذهل من النزعة الاستعمارية ومانوية المحافظين الجدد. لقد ردد الخطاب العنصري لثيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية، حيث استهل كلامه واصفا الصراع بأنه «صدام بين البربرية والحضارة»، و«بين أولئك الذين يمجدون الموت وأولئك الذين يقدسون الحياة».
ومثل هيرتزل، وصف بنيامين نتنياهو إسرائيل بأنها حليف الغرب الذي يدافع عن مصالحه في الشرق الأوسط، والعامل الحضاري الذي من شأنه أن يحول المنطقة من «مياه راكدة من القمع والفقر والحرب إلى واحة مزدهرة من الكرامة والرخاء والازدهار والسلام».
وكان وجود المحافظين الجدد في خطاب بنيامين نتنياهو ملفتاً للنظر أيضاً. إن تلك الأيديولوجية السياسية التي وصلت إلى السلطة خلال إدارة رونالد ريغان هي نسخة علمانية من نسخة غريبة من الفكر الإنجيلي المسيحي.
لا شك أن كلا من بنيامين نتنياهو ورونالد ريغان يشتركان في خصائص المانوية: هناك قوى الخير المطلق والشر المطلق في العالم؛ ليس فقط أنه لا توجد إمكانية للتسوية بينهما، بل إن الصراع في الواقع أمر لا مفر منه وضروري؛ وإذا تمت محاربته بالتزام كامل، فإن الخير سينتصر دائمًا، مع القضاء على الشر في النهاية.
وفي عهد الرئيس ريغان، تم تعريف الشر على أنه الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه. ومن وجهة نظر السيد نتنياهو، فإن مصدر كل الشرور هو إيران وحلفاؤها، ولا يمكن بالتالي التوصل إلى حل وسط، ويُنظر إلى الدبلوماسية باعتبارها نقطة ضعف.
ومن هنا، فإن النداء الذي توجه به بنيامين نتنياهو إلى حلفائه في الغرب والعالم العربي يتلخص في الانضمام إليه في هذه المعركة الكونية ضد الشر ــ مع التأكيد على أنه بالإصرار يمكن تحقيق النصر والقضاء على الشر.
لقد شعر بنيامين نتنياهو أن لديه حليفًا يتجسد في الرئيس الأمريكي جو بايدن. فمنذ أيامه الأولى في مجلس الشيوخ، تلقى جو بايدن إرشادًات في هذا الشأن من أحد مهندسي المحافظين الجدد الأمريكيين.
ولكن مع تنحي الرئيس بايدن عن سعيه لنيل ترشيح الديمقراطيين للرئاسة لصالح نائبة الرئيس كامالا هاريس، انتهت زيارة نتنياهو إلى واشنطن بشكل سيئ. وبدلاً من العناق الدافئ الذي اعتاد أن يتلقاه من بايدن، كان استقبال السيدة هاريس أكثر فتورا.
وبعد اجتماعهما، وبدلاً من الظهور المشترك، خاطبت السيدة هاريس الصحافة وحدها. وبينما أكدت حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، أضافت أن المهم هو الطريقة التي تدافع بها إسرائيل عن نفسها.
ثم تحدثت هاريس مطولا عن الكلفة الفظيعة للحياة البشرية والمعاناة الناجمة عن الحرب في غزة، وأوضحت أن الصراع يجب أن ينتهي، وأن الفلسطينيين بحاجة إلى مستقبل يضمن لهم الحرية وتقرير المصير.
وبهذا رفضت السيدة هاريس ضمنيًا دعوة نتنياهو لتحقيق «النصر الكامل»، في حين أشارت أيضًا بشكل مباشر إلى أنها لم تكن خائفة من التحدي الجمهوري لجعل دعم إسرائيل في عهد نتنياهو «قضية خلافية» في هذه الانتخابات.
لقد كشفت الزيارة حقيقة أن الناخبين الأمريكيين منقسمون بشدة حول هذه القضية. لا يتعلق الأمر برفض إسرائيل؛ بل إن فكرة الدعم المطلق لإسرائيل، مهما فعلت، هي التي تم رفضها.
وكما قالت السيدة هاريس في تصريحاتها بعد الاجتماع، لم يعد من الصحيح رؤية هذا الصراع على أنه «خيار ثنائي». هناك احتياجات على كلا الجانبين يجب تلبيتها، ومن الأفضل تلبيتها من خلال السلام والدبلوماسية.
وبذلك، غادر بنيامين نتنياهو واشنطن وقام برحلة حج إلى مارالاغو للقاء المرشح الرئاسي الجمهوري الوحيد الذي يشاركه إيمانه بـ«النصر الكامل». إنه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك