في الوقت الذي تملأ فيه منصات «التواصل الاجتماعي» الدنيا وتشغل الناس، الذين يزيد اعتمادهم عليها يومًا بعد يوم، وتتعاظم درجة ارتباطهم بها على الصُعد كافة، تبرز المشكلة الكبرى بخصوص تلك المنصات؛ إذ يبدو أنه لا يمكن تعريفها على نحو واضح حتى اللحظة، كما يبدو أن نطاق تأثيرها، والصلاحيات التي تكتسبها باطراد، تتسم باتساع لا سقف له ولا حدود.
لقد باتت تلك المنصات، إلى جانب صلاحياتها الهائلة المتنوعة في مجالات شتى، آليات اتصال حكومي كاملة الأركان، كما أضحت منابر لأصحابها؛ يمكن من خلالها أن يخوضوا معارك سياسية، أو يؤطروا الفهم العالمي لقضايا ملتبسة وساخنة.
في الأسبوع الماضي، كنا على موعد مع ثلاثة أخبار بارزة بخصوص صلاحيات تلك المنصات؛ أولها قرار حظر «إنستجرام» في تركيا، الذي اتخذته سلطة الاتصالات في هذا البلد، بعدما قدرت أن تلك المنصة حجبت «أخبار التعازي» الخاصة بمقتل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، في إيران.
أما ثاني تلك الأخبار، فكان يتعلق بانتقادات حادة وجهتها الحكومة الماليزية الى شركة «ميتا بلاتفورمز»، التي تمتلك منصتي «إنستجرام» و«فيس بوك»، وتديرهما، ضمن عدد آخر من المنصات، بداعي أن الشركة حذفت منشورًا حول لقاء سابق عقده رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم مع «هنية».
وفي الخبر الثالث، كنا على موعد مع قصة أقل حدة وأكثر إثارة؛ إذ يبدو أن الملياردير الشهير إيلون ماسك، مالك شركة «إكس»- التي اشتراها قبل عامين في صفقة بلغت قيمتها 44 مليار دولار، من دون جدوى اقتصادية واضحة- قرر أن يُجرب مجددًا فاعلية منصته في دمجه ضمن الأحداث السياسية المُهمة، ومنحه الفرصة لتصدر قوائم الأخبار؛ فخاض تراشقًا كلاميًّا مع رئيس إحدى الدول.
فقد قرر ماسك أن يعبر عن رأيه في الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل، التي قادت الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى ولاية جديدة، بالطعن في نتائج الانتخابات، ووصف الرئيس بـ«الديكتاتور»، وهو أمر رد عليه مادورو بدعوة الملياردير الشهير إلى «قتال» مباشر.
ستقودنا تلك الأخبار الثلاثة إلى بعض الحقائق، التي يصعب جدًّا دحضها فيما يتعلق بمنصات «التواصل الاجتماعي؛ ومن تلك الحقائق أن هذه المنصات باتت قادرة على تأطير الخطاب والفهم العالمي للقضايا السياسية الخطيرة والمُهمة، وأنها في سبيلها لذلك تستخدم آليات كشف آلي، أو مراجعة بشرية دقيقة لاستبعاد أفكار بعينها، أو الترويج لأفكار أخري.
ومن بين تلك الحقائق أيضًا أن هذه المنصات لا تحفل بما ينالها من انتقادات بسبب سلوكها هذا، ولا تجد أنها مُجبرة على تسويغه أو توضيحه، أو على الأقل كان هذا ما فهمناه حين امتنع مسؤولو «ميتا بلاتفورمز» عن التعليق على أنباء حظر «إنستجرام» في تركيا، أو انتقادات أنور إبراهيم للشركة بسبب إجراءات «فيس بوك» في شأن حجب بعض الأخبار الحكومية الماليزية.
أما الحقيقة الثالثة، فتتلخص في أن امتلاك إحدى تلك المنصات والقيام بتشغيلها وفق قواعد تسيير يضعها المالك، إنما تمنح هذا الأخير الفرصة لكي يكون قطبًا سياسيًّا، يستطيع من منصته أن يقارع رؤساء الدول والزعماء السياسيين، وأن يسخر منهم، ويتحكم في نطاق وصول أخبارهم إلى الجمهور، الذي يتخطى مئات الملايين.
وسيدعم تلك الحقيقة بالذات ما نتذكره عما حدث للرئيس الأمريكي السابق، المرشح الرئاسي الحالي دونالد ترامب، الذي أُبعد عن المنصة المُفضلة له «تويتر» («إكس» حاليًا)، في أجواء أحداث اقتحام الكابيتول، في يناير 2021، الأمر الذي دفعه إلى تطوير منصة خاصة به («تروث سوشيال»)، لكي تكون «عصمته الاتصالية في يده»، ولا يضطر للخضوع إلى قرارات حظر أو تأطير، ترهن وجوده وخطابه لإرادة آخرين.
وبصرف النظر عما إذا كانت «ميتا بلاتفورمز» مُحقة في حجب أو تأطير ما يتصل بحركة «حماس»، التي تُصنفها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخري على أنها حركة «إرهابية»، وبصرف النظر أيضًا عما إذا كانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فنزويلا «نزيهة» أو «خضعت للتلاعب»، فإن ترك الأمور لأصحاب منصات «التواصل الاجتماعي» لقيادة الخطاب السياسي الدولي، من دون مراجعة أو قواعد شفافة واضحة، هو عمل خطير، وستكون له عواقب. وقد تأكد لنا هذا بوضوح حين اتخذت تلك المنصات معظمها قرارات بدت منحازة وملتبسة عند اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية.
لا يمكن تصور العالم من دون منصات «التواصل الاجتماعي» بكل ما امتلكته من فاعلية وتأثير ونفاذ وزخم. هذا صحيح، لكن من الخطير جدًّا أن تُمنح تلك السلطات والصلاحيات كلها، بلا رقيب أو مُنظم لأصحابها من فرسان التكنولوجيا وحدهم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك