أن يقف رئيس وزراء دولة الاحتلال في المجلس الذي (يدعي) أنه المجلس الأكثر ديمقراطية والأهم في المحافظة على حقوق الإنسان، وأن يخطب بين رجالات السياسة بجميع أطيافهم في الولايات المتحدة، فهذا شأنهم، ولكن أن يتحدث هذا الصهيوني بل ويدافع عن حقوق الإنسان وأن يدعي أنه هو الرجل الأمثل، وأن دولته التي قامت على دماء وأشلاء البشر هي الدولة الأكثر أخلاقية والأكثر نزاهة والأكثر براءة والأكثر تطورًا وحضارة عن بقية دول العالم، فهذا غير مقبول، ليس ذلك فحسب، وإنما أن يقوم كل هؤلاء الساسة الحضور في هذا المجلس بقطع هذا الخطاب كل نحو 40 ثانية من أجل التصفيق والتصفير لهذا المجرم الذي أدين من قبل كل الجهات الحقوقية، على أنه مجرم حرب، فهذا أمر غير مقبول أبدًا، إلا إذا كان هذا المجلس بمن فيه يؤيد بكل صلافة كل أنواع الإجرام وكل أنواع الدمار، وكل إسالة دماء، وكل إبادة جماعية للبشر، وهذا أمر لا نحتاج إلى البحث فيه، فالتاريخ يشهد بصدق ذلك.
قد يدعي البعض أن هناك أعضاء لم يحضروا ولم يصفقوا، لكننا نقول إن دعوة رئيس وزراء دولة الاحتلال لإلقاء خطاب في هذا المكان ليتحدث أمام العالم في حد ذاته مشاركة له في جرائمه، أيًا ما كانت الحجة والنوايا، وأما الذين يقولون إنهم لم يحضروا ولم يصفقوا فنعتقد أنه كان من الأجدى أن يعترضوا وأن يعلنوا رفضهم على حضوره، بل ورفضهم لإتاحة الفرصة لمثل هذا الإنسان المتعجرف للوقوف في هذا المكان ومخاطبة العالم، وذلك قبل الجلسة وأمام كل البشرية، حتى تبرأ ذممهم ويسجل لهم التاريخ هذا الموقف.
حسنٌ، ماذا قال رئيس وزراء الدولة الصهيونية حتى يتم التصفيق له ما يقارب 80 مرة؟ ما الإبداعات التي قالها حتى يستحق كل هذا التصفيق والتصفير؟ دعونا نلقي نظرة.
أولاً: ركز المتحدث على إثارة غريزة عاطفة الخوف؛ فقد كان يهدد أمريكا والعالم تارة ويصفعها تارة ويخوفها تارة بالبعبع التي صنعته يد الإمبريالية نفسها، وهي إيران، وكلنا يعرف أن إيران صنيعة الإمبريالية، وهذا موضوع تطرقنا له في عدة مقالات، ولكن كم من الحضور وكم من شعوب العالم يعرف ذلك، فقد كان يكرر ويهدد، وقال بطريقة أو بأخرى: إنه لم نتمكن من السيطرة على المقاومة فإن دولة الشر لن تقف عند حدود، وستكون أمريكا ودول العالم المتحضرة هدفها الثاني.
والسؤال المهم، لماذا سلك هذا المنهج في الخطاب؟ لأن الساسة والشعوب الغربية تعتقد جازمة أنها أفضل الدول والشعوب التي عاشت على الكرة الأرضية منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الكون حتى الآن، وأن منهاج حياتهم هو المنهاج الأفضل والأمثل للبشرية وأنه المنهاج الصالح الذي يمكن أن يحل كل مشاكل البشرية على مدى كل العقود القادمة، فيثير خوفهم من ضياع كل هذا المنهاج المثالي من دول التخلف والشر، لأنه إن انتصرت دولة التخلف فإن كل هذه الحضارة وهذا التقدم وهذه التكنولوجيا مآلها للزوال، وأنه بعد ذلك سيعودون إلى عصر الكهوف والجمال والصحراء. وهذا الحديث وإن لم يقال علنًا فإنه موجود ما بين السطور، وهذا يخوف الشعوب الغربية بكل أطيافها وألوانها. فهو كرر وقال: «نحن على مفترق طرق تاريخي، والشرق الأوسط يغلي والصراع ليس بين حضارات وإنما بين البربرية والتحضر»، فهل نعتقد أن شعوب العالم ستختار البربرية؟
ثانيًا: إن دولة الاحتلال هي الوحيدة التي تستطيع السيطرة على التخلف؛ وهذه فكرة يحاول زراعتها في عقول الساسة والشعوب الغربية. فالمتحدث يعلن تارة ويحوم حول الفكرة تارة أخرى بأنه ليس على شعوب العالم المتحضر أن تفعل أي شيء فدولة الاحتلال كفيلة بالقيام بتدمير دول التخلف والشر، فكل الذي يحتاج الأدوات والأسلحة الكفيلة بقتل الأطفال والنساء والشيوخ، آسف أقصد الإرهابين في المساجد والمدارس والبيوت.
إن دول الاحتلال بما لها من خبرات طويلة – كما يدعي المتحدث – في القتال فإنها تستطيع بل وتعرف كيف تتعامل مع هذه النوعية من البشر أو الحيوانات كما يقولون في أماكن أخرى.
وهذا يعني بكل وضوح أن دول الاحتلال هي الدولة الحضارية الوحيدة الموجودة في المنطقة، وربما بعض الدول المتحالفة مع دولة الاحتلال هي دول حضارية، أما بقية المنظمات والشعوب التي تطالب بحرياتها وحقها في الحياة فإنها شعوب ومنظمات إرهابية متخلفة تمثل الشر المطلق، لذلك فإن ما تقوم به دول الاحتلال هو الطريق الصحيح لإعادة توازن للعالم المتحضر.
ثالثًا: التركيز على العلاقة بين دولة الاحتلال وأمريكا ودول الغرب؛ ولم ينس المتحدث في خضم كل هذا الحديث الذي امتد حوالي 54 دقيقة أن يركز ويدغدغ مشاعر الحضور على العلاقة بينهم وبينه، فقد أشار عدة مرات إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل يجب أن يقفا سويًا و«حين نقوم بذلك سننتصر وهم سيُهزمون». ثم شكر الرئيس الأمريكي الحالي (بايدن) عدة مرات وعلى علاقتهما الحميمة التي امتدت لقرابة 40 سنة، وكذلك لم ينس الرئيس السابق (ترامب) على كل ما قام به من أجل دولة الاحتلال فقد دفع (اتفاقيات أبراهام) قدمًا، وأعترف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها واعترافه بسيادة تل أبيب على هضبة الجولان السورية المحتلة.
ومن جانب آخر صفع أمريكا ووبخ الرئيس (بايدن) فقد أشار إلى ضغوط حكومة (بايدن) على الجيش الإسرائيلي، وزعم أن أمريكا حرمت إسرائيل من امتلاك بعض الأسلحة وهذا الأمر أثر سلبًا على أداء الجيش في الحرب، كما انتقد نتنياهو الضغوط التي تمارسها حكومة (بايدن) في معارضة الهجوم الإسرائيلي على رفح.
رابعا: اتهام محكمة الجنايات الدولية بالفساد؛ لم يقلها صراحة، وإنما عندما تحدث عن المحكمة فقد أشار إلى أن هذه المحكمة تحاول تكبيل يد إسرائيل، ولكن هذا «لن يتم تكبيل يد الدولة وسندافع عن أنفسنا»، وكذلك لم ينس أن يشكر الولايات المتحدة لأنهم وقفوا واعترضوا على كل هذه الادعاءات الزائفة للمحكمة الجنائية الدولية. وهذا يشكر يقودنا إلى أنه يجب ألا توقف الولايات المتحدة يد دولة الاحتلال عن الإبادات الجماعية لأنها ستكون هي ودول الشرق الأوسط الأصدقاء الهدف التالي، فإن دولة الاحتلال تحارب أعداء البشرية والدول المتحضرة.
ليس ذلك فحسب، وإنما – إن لم يتم تكبيله – فإنه يستطيع هو وجيشه ودولته المحتلة أن يقودوا البشرية كلها إلى السلام والتحضر والحضارة، فهو – كما قال – يتطلع إلى تشكيل تحالف في الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة لمحاربة الشر بكل أنواع وأطيافه، وأنه يدعو كافة الدول التي ترغب في السلام للانضمام إلى هذا التحالف الجديد الذي أسماه (تحالف أبراهام)، فكيف يكون مجرم حرب وهو الذي يدعو إلى السلام؟
خامسًا: كل العالم لا يفهم إلا هو؛ وكان هذا واضحا في خطابه حينما انتقد كل المتظاهرين والمعارضين في شتى بقاع العالم، فقد كرر وقال: إن على المتظاهرين ضدنا يجب أن يخجلوا من أنفسهم، وقال: كثير من المتظاهرين ضدنا اختاروا أن يقفوا مع الشر ومع حماس ويحب أن يشعروا بالعار، وقال: إن إيران تمول المتظاهرين خارج الكونغرس الآن، وقال: المتظاهرون يرفضون التمييز بين دولتنا الديمقراطية وحماس الإرهابية، وقال: المتظاهرون ضدنا يرددون شعار من البحر إلى النهر لكنهم لا يدركون معنى ذلك، وقال: المتظاهرون أمام الكونغرس أصبحوا لعبة في يد إيران.
سادسا: العودة إلى الاسطوانة المشروخة؛ وأثناء خطابه لم ينس أن يعيد ويكرر المصطلحات الثلاثة التي يكررها دائمًا وأبدًا وفي كل حين، وهي: (معادة السامية)، و(الهولوكوست) و(الحق التاريخي في فلسطين).
ما تم ذكره غيض من فيض، فهناك الكثير والكثير من الأكاذيب التي ذكرها رئيس وزراء دول الاحتلال، ولا نرغب الاتيان بها، لأنها بالفعل كثيرة جدًا، وقد جئنا ببعض من تلك الأكاذيب حتى يتبين للمفتونين به وأمثاله من أعضاء المجلس المصفق من السادة والمفكرين أن هؤلاء قوم لا دين ولا قيم لهم، يصفقون ويصفرون للظالم ولا يحترمون المظلوم، ولا يرون أن هذه معضلة، وإنما يجدون عبر حضارتهم المزعومة أن هذه هي الحضارة، لكننا نعرف كذبهم ومراوغاتهم وفكرهم الملوث.
والمضحك في هذا الموضوع، أنه حينما سأم المتحدث من كل هذا التصفيق، طلب من الحضور عدم التصفيق وإنما الاستماع، وعجبي.
zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك