تتسارع وتيرة التطورات في منطقة الشرق الأوسط على نحو غير مسبوق والتي وإن اختلفت أحداثها بين أزمة وأخرى فإنها تفضي في النهاية إلى نتيجة واحدة مفادها أننا ليس فقط أمام احتدام الصراعات وتشابكها بل أنها فرضت قواعد اشتباك جديدة وغير مألوفة سواء من حيث أطرافها أو الوسائل التي تستخدمها بما يعنيه ذلك من أن المنطقة لم تعد تتسم بالصراع المنضبط.
خلال العقود الماضية لم تخل المنطقة أيضاً من أزمات متتالية مثلت تحديا ولكن كان بالإمكان التعامل مع تداعياته والبعض الآخر تطلب تأسيس تحالفات عسكرية انتهت بانتهاء المهمة التي تأسست من أجلها، وربما يقول البعض إن التحديات ذاتها كانت سمة لأقاليم أخرى في العالم، وهذا صحيح في جزء كبير منه، ولكن لماذا احتدمت في الشرق الأوسط على هذا النحو؟ والأسباب عديدة ربما لا تكفي كلمات المقال لسردها ولكن ببساطة تكمن في ثلاثة أولها: الأزمات التي واجهتها العديد من الدول العربية والتي آل بعضها إلى صراعات داخلية مسلحة محتدمة رافضة الحوار كآلية لإنهائها والنتيجة هي أن هدم الدولة الوطنية يعني هدم مستوى الأمن الإقليمي ذاته الذي يعد حاصل جمع تلك الوحدات كما يرى باري بوذان أحد منظري نظرية الأمن الإقليمي، وثانيها: التنافس الإقليمي والعالمي في تلك المنطقة، صحيح أنه ليس بالأمر الجديد ولكن ربما لم يكن بذات الحدة حتى إبان حقبة الحرب الباردة ذاتها، حيث انعكس ذلك التنافس على مسار الأزمات الإقليمية من ناحية وعسكرة ذلك التنافس من ناحية ثانية بما لا يتيح لمنظومة الأمن الإقليمي أن تتطور كما كان مأمولاً لها، أو بالأحرى تراجع مستوى الأمن الإقليمي لصالح الأجندات الأمنية العالمية، وثالثها: الجماعات دون الدول في مواجهة الدول، وربما كان الحديث قبل سنوات قليلة عن تلك الجماعات بأنها ضمن تفاعلات الصراعات ولكن الآن أضحت في بؤرة تلك الصراعات بل أنها محرك لها.
تلك العوامل على سبيل المثال لا الحصر فالقائمة تطول، ولكن ثمة عوامل كانت محركة لتلك الصراعات أولها: أن التكنولوجيا أضحت هي الركيزة الأساسية سواء للدول أو الجماعات دون الدول، بما يعنيه ذلك من إنهاء قدرة الدول على الردع مهما كان لديها من تسلح تقليدي، فضلاً عن إطالة أمد الصراعات بالنظر إلى سهولة الحصول على تلك التكنولوجيا وتوظيفها على نحو سيئ وعدم وجود سبل دولية لمحاسبة مرتكبي جرائمها، وثانيها: توظيف ورقة الممرات المائية الحيوية في الصراعات، وهو أمر ليس بالجديد فقد لجأ إليه طرفا الحرب خلال الحرب العراقية - الإيرانية في الثمانينيات مع استهداف ناقلات النفط في الخليج العربي، إلا أن الأمر الجديد هو قدرة الجماعات دون الدول على الدخول على خط المواجهة ضمن تهديد تلك الممرات، وثالثها: التشابك غير المسبوق بين الأزمات إلى الحد الذي يمكن القول إن كافة الجبهات محتدمة.
ومع التسليم بما سبق وعلى الرغم من التحذيرات المتتالية التي أطلقها مندوبو عدد من دول العالم خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدها الأربعاء 31 يوليو 2024 فإن سيناريو اندلاع حرب شاملة لا يلوح في الأفق، فليس من السهولة ولوج دول إقليمية لمثل تلك الحرب لثلاثة أسباب الأول: أن الحرب هي اختبار لقدرة الردع ولاتزال بعض الأطراف تنتهج استراتيجية الردع بالشك، أي ما لم تعرف قدرات تلك الأطراف الحقيقية فهذا بحد ذاته ممارسة للردع، والثاني: أنه بالرغم من حالة عدم الاستقرار الإقليمي الراهنة فإنها ربما تعزز من مصالح بعض الأطراف دون خوض حرب مباشرة، والثالث: تحذيرات القوى الكبرى من دخول أطراف إقليمية تلك الحرب، بمعنى آخر ترى القوى الكبرى معادلة توازن القوى وفق منظور دقيق وحال رأت أن ثمة خللاً في ذلك التوازن بما يهدد مصالحها الحيوية فإن التدخل العسكري سيكون حتمياً.
ومع وجاهة تلك العوامل فلا يعني تجنب وقوع سيناريو ما الأمر الذي يضع منظمة الأمم المتحدة أمام مسؤوليتها التاريخية، صحيح أن استخدام حق النقض «الفيتو» سوف يظل حائلاً أمام صدور قرارات تؤسس لإنهاء تلك الصراعات على غرار القرار الأممي 598 الذي تم اتخاذه بالإجماع عام 1987 لينهي الحرب العراقية- الإيرانية، ولكن تظل المنظمة الأممية هي المظلة الجماعية للأمن والتي ارتضتها دول العالم كافة، من ناحية ثانية تقع على عاتق منظمات الأمن الإقليمي مسؤولية الاضطلاع بأدوار الوساطة لحل تلك الصراعات التي أضحت عابرة للحدود ومن غير الممكن تجنب آثارها على نحو مثّل تحدياً غير مسبوق للأمن الوطني للدول، من ناحية ثالثة الدور المهم للدول العربية المحورية في ظل تعقيدات الأمن الإقليمي الراهنة لما لها من قدرة على التأثير في أطراف تلك الصراعات.
ولعل التساؤل المهم الذي يفرض ذاته: ما هي القضايا الأكثر إلحاحاً في الوقت الراهن؟ أو بمعنى آخر ما هي المعالجات الجذرية المطلوبة لنزع فتيل تلك الأزمات؟ وفي تقديري أنها ثلاثة مسارات رئيسية، الأول: إعلان مسار واضح ومحدد لتأسيس دولة فلسطينية وفقاً للقرارات الأممية لأن ذلك سوف ينزع الشرعية عن الكثير من محاولات توظيف تلك القضية من جانب هذا الطرف أو ذاك، والثاني: وجود مبادرات فعالة سواء من جانب تنظيمات الأمن الإقليمي أو المنظمة الأممية لإنهاء الصراعات الإقليمية وفق توافقات بين أطرافها للحفاظ على مفهوم الدولة الوطنية الموحدة، والثالث: حتمية توافق دول العالم الآن وقبل أي وقت مضى على التوصل الى إطار دولي ملزم يتضمن قواعد بشأن استخدام التكنولوجيا التي نالت من الأمن الوطني للدول وعلى نحو خطير.
إن خريطة وأطراف وقواعد الصراعات الراهنة في الشرق الأوسط تشي بسيناريوين إما استمرار حالة الفعل ورد الفعل بين الدول والجماعات دون الدول وإما حدوث تطور آخر، وفي كلتا الحالتين يتعين أن تدرك القوى الكبرى والمنظمات التي لديها مصالح حيوية في المنطقة، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أن النتيجة لن تكون منتصرا ومهزوما في ظل التكنولوجيا الحديثة من ناحية وما تتيحه تلك الصراعات من احتدام التنافس الدولي تجاه المنطقة من ناحية ثانية ويقدم الأمن البحري نموذجاً على ذلك.
قبل سنوات مضت ساد فكر مؤداه أن الأمن الإقليمي يدور في فلك نظيره العالمي، إلا أن الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط حالياً لم تنه الحدود الفاصلة بين المستويين فحسب ولكنها تؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك بأن الأمن الإقليمي هو من يؤثر على شكل وهيكل الأمن العالمي ومن ثم فإنه لا سبيل نزع فتيل تلك الأزمات سوى من خلال تعاون مبادرات وأدوار للقوى الفاعلة لضبط مضامين ومسارات الصراعات الإقليمية مجدداً.
مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك