رحب الخبراء القانونيون ومنظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية بالقرار الصادر عن محكمة العدل الدولية يوم 19 يوليو 2024، بأن استمرار احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967 «غير قانوني»، ومطالبة حكومتها «بالتوقف الفوري عن جميع أنشطة الاستيطان»، وسحب أولئك الذين يعيشون بالفعل بشكل غير قانوني في الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بالقوة في عام 1967، والتي هي الآن تحت السيطرة الإسرائيلية منذ ذلك الحين.
ورغم أن هذا الحكم يشكل رأيا استشاريا غير ملزم، فإن المدير التنفيذي السابق لمنظمة هيومن رايتس ووتش «كينيث روث»، كتب عن الكيفية التي «هدمت» بها المحكمة أي حجة قانونية إسرائيلية لتسويغ احتلالها للأراضي الفلسطينية، كما كتبت صحيفة «فاينانشال تايمز» أن من شأن هذا «الحكم الدامغ» أن «يدفع إلى إعادة التفكير في سياسات الغرب» المستمرة في دعم إسرائيل، وتشويه سمعة الفلسطينيين.
ونظرًا إلى توقع المراقبين أن إسرائيل وداعميها في الغرب وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، سيتجاهلون هذا الحكم تمامًا كما فعلوا في جميع القرارات الأممية السابقة، ومنها: الصادرة عن «محكمة العدل الدولية» التي تدين انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، فإن أي تأثير ذي مغزى لهذا الحكم على الأراضي العربية المحتلة سيكون محدودًا.
ولكن عندما يضاف ذلك القرار إلى الانتقادات الهائلة الموجهة إلى إسرائيل بسبب حربها في غزة، والتحقيق الجاري لمحكمة العدل الدولية بشأن تعرض الفلسطينيين للإبادة الجماعية، وقرار قضاة المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال دولية بحق «نتنياهو» ووزير دفاعه «يوآف جالانت» بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة؛ فإن هذا الحكم كما أقرت صحيفة «فاينانشال تايمز»، يشكل تحديًا مهمًا آخر لـ«نفاق» الحكومات الغربية التي تمارس تناقض بين أقوالها وأفعالها، وبالتالي تقويض النظام الدولي العادل القائم على القواعد الذي تتبناه تلك الحكومات نفسها لبقية دول العالم.
ووصف روث هذا القرار بأنه رفض شامل للاحتلال الإسرائيلي الذي دام 57 عامًا للضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان وقطاع غزة، وسجلت صحيفة «فاينانشال تايمز» كيف قررت المحكمة أن كل عمل إسرائيلي تقريبًا في المنطقة يمثل انتهاكًا للقانون الدولي. وأضافت «إيريكا جيفارا روزاس» مديرة البحوث وأنشطة كسب التأييد والسياسات في منظمة العفو الدولية، أن هذا إثبات تاريخي لحقوق الفلسطينيين الذين عانوا عقودًا من القسوة والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان.
إن حكم محكمة العدل الدولية جاء استجابة لطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة، عبر قرارها 77/247 ووفقًا للمادة 65 من المحكمة، لتقدم رأيا استشاريا بشأن الأسئلة التالية:
1) ما العواقب القانونية المترتبة على انتهاكات إسرائيل المستمرة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره منذ عام 1967؛ بسبب الاحتلال والاستيطان وضم الأراضي الفلسطينية؟
2) كيف تؤثر «سياسات وممارسات إسرائيل» على «الوضع القانوني»، وما هي «التبعات القانونية التي تترتب على جميع الدول والأمم المتحدة» من هذا الوضع؟
وفي استنتاجاتهم بشأن هذه الأسئلة، أكد «نواف سلام» رئيس محكمة العدل الدولية، متحدثًا نيابة عن قضاة المحكمة، على أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية والنظام المرتبط بها، يستمرون في انتهاك القانون الدولي. ومن ثم، قضت المحكمة بأن إسرائيل ملزمة بإخلاء جميع المستوطنين غير الشرعيين على الفور، فضلًا عن دفع تعويضات جراء ما ألحقته من أضرار بالفلسطينيين. وفي حالة رفض إسرائيل القيام بذلك، كتب القضاة أن الأمم المتحدة نفسها يجب أن تدرس الوسائل البديلة وتتخذ المزيد من الإجراءات لإنهاء هذا الوجود غير القانوني في أسرع وقت ممكن.
وأوضح «روث» أنه وفقًا لحكم المحكمة، فإن اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية الأشخاص وقت الحرب -التي وقعت عليها إسرائيل- هي الوثيقة القانونية الأساسية التي تدين تصرفات إسرائيل، وتنص بوضوح على أنه (من غير القانوني بموجب القانون الدولي وجرائم الحرب أن تنقل قوة احتلال سكانها إلى منطقة خاضعة لسيطرتها العسكرية)، ونظرًا إلى أن أكثر من 700.000 مستوطن إسرائيلي يعيشون الآن في الضفة الغربية والقدس الشرقية على أرض تم إجلاء الفلسطينيين منها بالقوة؛ فقد اعتبرت محكمة العدل الدولية أن إسرائيل انتهكت القانون الدولي، وأن مثل هذه المستوطنات غير قانونية.
وفي هذا الصدد، أضاف روث أن المحكمة أوضحت أيضًا أن المادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة تنص على أن المفاوضات بين المحتل، ومن يرزخ تحت الاحتلال، لا يمكن أن تحرم الأخير من هذه الحقوق، ووفقاً لروث، كان هذا القرار «حكيماً» للغاية نظرًا إلى اختلال التوازن المتأصل في القوة في أي مفاوضات سابقة أو مستقبلية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وبالإضافة إلى هذه النقطة، فإنه إلى جانب قانونية قرار محكمة العدل الدولية وحكمها بعدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية ــ علق روث على اعتراف المحكمة حول كيفية فرض إسرائيل نظامًا للفصل العنصري في الأراضي المحتلة يتسم بـ«التمييز المنهجي» ضد الفلسطينيين، وبدوره أشار «سلام» إلى أن التشريعات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية والجيش للحفاظ على فصل شبه كامل في الأراضي المحتلة بين المستوطنين غير الشرعيين والفلسطينيين، كانت انتهاكًا واضحًا للمادة 3 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965.
ولكن مع استمرار عمليات بناء مستوطنات غير قانونية جديدة، وتوسيع نطاق المستوطنات القائمة تحت رعاية وزير المالية الإسرائيلي «بتسلئيل سموتريتش» ووزير الأمن القومي «إيتمار بن غفير»، فقد اعترف روث بأن قرارات محكمة العدل الدولية، ليست «رصاصة سحرية» لإحلال السلام والعدالة في المنطقة، وبالتالي يجب أن يكون الضغط السياسي أمرا مطلوبًا لدعمها. وأشارت «جيفارا روزاس» قائلة إنه يجب على المجتمع الدولي، وخاصة حلفاء إسرائيل، أن يتخذوا «إجراءات لا لبس فيها لضمان إنهاء إسرائيل لاحتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية.
ورغم ترحيب رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي «جوزيب بوريل»، بقرار محكمة العدل الدولية باعتباره متسقًا إلى حد كبير مع مواقف الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد، وتعهده بأن من الواجب الأخلاقي للدول الغربية أن تؤكد التزامها الثابت بقرارات المحكمة بغض النظر عن مضمونها، ورغم وجود اعترافات من جانب واشنطن بأن تصرفات إسرائيل تتعارض مع القانون الدولي، وتعيق عملية السلام في المنطقة. إلا أن الولايات المتحدة اختارت انتقاد القرار على أساس مفترض أنه سيعقد الجهود الرامية إلى حل الصراع الغير موجود، وأن تظل الداعم الرئيسي للتدابير الإسرائيلية، وحاميها من المساءلة عن انتهاكاتها بحق الشعب الفلسطيني.
إن حقيقة رفض واشنطن لقرار محكمة العدل الدولية يسير جنبًا إلى جنب، وفقًا لـ «روث» مع تجاهل إسرائيل نفسها لقرارات سابقة للمحكمة ذاتها، ولا سيما عند رفضها هدم «جدار الفصل» في الضفة الغربية الذي اعتبرته المحكمة غير قانوني في عام 2004، كما لم تتراجع عن قصفها وهجماتها البرية داخل غزة بعد أن أمرتها المحكمة عام 2024 بحماية المدنيين بموجب اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية في نظام روما الأساسي.
ومع ذلك، من المتوقع أن يحدث قرار محكمة العدل الدولية فرقًا مهمًا، وتحديدًا فيما يتعلق بالتحقيقات المتزامنة التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة والأراضي المحتلة الأخرى. كما أنه هناك تقارير لوسائل إعلام إسرائيلية عن صدور مذكرات اعتقال دولية بحق «نتنياهو وجالانت» في غضون الأسابيع القادمة. وفي هذا الصدد أشار روث إن القرار دعوة افتراضية لـ«كريم خان» المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين. وعليه أن يبدأ بالملاحقة القضائية لأعضاء الحكومة الحالية الذين يأذنون بتوسعها مثل «سموتريتش» و«بن غفير».
وفي النهاية، يعترف المعلقون الغربيون بأن قرار محكمة العدل الدولية الصادر في يوليو 2024 – بشأن عدم قانونية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة – سيكون له ثقل رمزي في إدانة إسرائيل لانتهاكها المستمر للقانون الدولي، ولن يكون وسيلة لخلق تغييرات إيجابية تشتد الحاجة إليها لإنهاء الصراع الراهن.
إن رد فعل واشنطن لفرض مثل هذا التغيير من خلال الطرق القانونية يشكل عقبة أساسية، وعلى الرغم من أن المسؤولين الأوروبيين الذين يقدرون القانون الدولي والقرارات الدولية قد أعربوا عن دعمهم لعمل المحكمة، فإنه لا يمكن تجاهل كيف أن الحكومات في (بروكسل ولندن وباريس وبرلين وروما ومدريد) لا تملك ببساطة النفوذ اللازمة لإجبار إسرائيل على الالتزام بالقانون الدولي ووقف الاستيطان وإخلاء المستوطنات والتي اعتبرت كل ذلك غير قانوني.
على العموم، فإنه بينما يصر روث على أن هذا القرار أكثر من مجرد انتكاسة قانونية لإسرائيل، حيث ألحق أضرارًا بسمعة الحكومة الإسرائيلية ودولة إسرائيل نفسها، فإن أفعالها التي تم اعتبارها دوليًا على أنها انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، تفتح الباب أمام نتنياهو وغيره من كبار المسؤولين الإسرائيليين ليكونوا هدفًا مباشرًا بالاعتقال من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بسبب جرائمهم البشعة التي ارتكبوها ضد الشعب الفلسطيني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك