قال سبحانه وتعالى: «وَجَعَلْنَاْ مِنَ المَاْءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاْ يُؤْمِنُوْنَ» تؤكد أن الله خلق كل شيء حي من الماء. وهذه حقيقة علمية مؤكدة، حيث إن الماء هو المكون الرئيس لجميع الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان والحيوانات والنباتات، أما بالنسبة إلى السياحة، فإن هذه الحقيقة القرآنية تعزز الدور الحيوي للمياه وتؤكد أهميتها في الحياة، حيثُ يمكننا استنتاج أن المياه هي أساس الحياة والوجود، وبذلك فهي أساس للسياحة والأنشطة السياحية المرتبطة به، وتأكيدًا على أن كل شيء حي مخلوق من الماء يعزز أهمية المحافظة على المياه ونظافتها لاستدامة السياحة. وأن إدراك هذه الحقيقة يجعل من الضروري احترام المياه واستخدامها بحكمة في التنمية السياحية؛ إذا لا يمكننا الاستغناء عن الماء بتاتًا، لما تجتاحه أجسام الكائنات الحيّة بدءا بالإنسان، الذي يحتوي جسمه على 60% منه من الماء، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النباتات والحيوانات، حيث إنّ الكائنات الحيّة تحتاج إلى الماء حتّى تستمر العمليّات الحيويّة على أتمّ وجه».
لقد عرفت البحرين قديمًا بوجود الكثير من العيون والينابيع البرية الطبيعية ذات المياه العذبة، وقد ارتبطت المواقع التي توجد بها تلك العيون والينابيع الطبيعية بالازدهار الحضاري، وكانت سببًا لاستقرار السكان فيها واستمرارية حياتهم على هذه الأرض الطبية، وتلبية احتياجاتهم المائية معتمدين بصورة أساسية على مياه العيون منذ استقرارهم حتى بداية العقد الثالث من القرن العشرين، ويرجع ذلك إلى امتلاك البحرين طبقتين من المياه الجوفية، وطبقة المياه الجوفية طبقة صخرية رطبة من الصخور النفاذية المحملة بالمياه، وتعتمد مملكة البحرين على هاتين الطبقتين كمصدر أساسي من مصادر المياه، وهما طبقة الدمام، وطبقة الرأس – أم الرضمة، وهي طبقة غير قابلة للتجديد، ولذلك تزداد ملوحتها مع استنفاد المياه منها، ويتوقع أن تصل ملوحتها مع مرور الوقت إلى نفس درجة ملوحة البحر، أما طبقة الدمام فيعاد تغذيتها من المياه الجوفية بالمملكة العربية السعودية، لذلك عدّ هذا النظام هو مصدر المياه العذبة شبه المتجدد الوحيد بالمملكة.
تملك مملكة البحرين تراثًا ثقافيًا شعبيا طبيعيا يتمثل في تراث المياه الطبيعية والعيون والمناطق الزراعية المنتجة والسواحل الممتدة على طول الجزيرة التي كانت تسمى ساحل اللؤلؤ، حيثُ مثلت رحلات الناس قديمًا للعيون الطبيعية نوعًا متميزًا من السَياحة البيئية، وقد عرفت البحرين قديمًا بوجود الكثير من العيون الطبيعية البرية التي ارتبط الازدهار الحضاري التي عاشته مملكة البحرين بمياهها العذبة، حيث كانت هذه المياه سببًا لاستقرار السكان فيها وكثرة النخيل والمنتجات الزراعية؛ لذا فقد استمر الإنسان القديم الذي عاش على هذه الأرض الطيبة في تلبية احتياجاته المائية معتمدًا بصورة أساسية على مياه العيون منذ استقراره حتى بداية العقد الثالث من القرن العشرين، فكانت الأجزاء الشمالية من جزيرة البحرين هي موطن الحضارة والتجمعات السكانية نظرًا الى وفرة مصادر المياه فيها؛ لذا فإن العمل على تأهيل العيون والينابيع الطبيعية في المملكة سوف يسهم بالتأكيد في تحقيق الاستدامة بجميع أبعادها؛ حيثُ إنه مما لا شك فيه أن التنمية المستدامة في المجال الاقتصادي تتطلب تحسين الظروف المعيشية للبشر بشكل لائق والكائنات الحية من دون إحداث زيادة في الضغط على استخدام الموارد الطبيعية التي تتجاوز قدرة كوكب الأرض على التحمل، وبالنسبة إلى الاستدامة الاقتصادية فإنها تهدف إلى ضمانة إمداد كاف من المياه لاسـتخدامه فـي التنميـة الزراعيـة والصـناعية والسياحية.
لقد عمدت المؤسسات الحكومية في مملكة البحرين إلى العمل على وضع خطط مستقبلية لإعادة تأهيل العيون والينابيع الطبيعية، وإيجاد أساليب متقدمة في إدارة ملف العيون الطبيعية بكفاءة وتحقيق أفضل استفادة ممكنة من العيون والينابيع الطبيعية، وقد أخذت وزارة شؤون البلديات والزراعة على عاتقها هذه المهمة وبدأت ببرنامج إعادة إحياء العيون التراثية، وذلك ضمن حرصها على الحفاظ على التراث العمراني والبيئي لمملكة البحرين، وقد تم اختيار أهم العيون والينابيع الطبيعية اعتمادًا على تاريخها وجمالها وموقعها وإمكانية استغلالها أماكن سياحية وترفيهية. وللعيون والينابيع الطبيعية حكايات لا تنسى في ذاكرة الشعب البحريني ويتم توارثها من الأجداد للأبناء، ومن أهمها العيون البرية التي تعد مصدرًا مهمًا من مصادر المياه قديمًا، ومنظرًا خلابًا يُبهج النفس ويبعث على الراحة والطمأنينة، ومن أشهرها عين عذاري التي تعدُ من أكبر الينابيع الطبيعية في البحرين من حيث العمق والاتساع، ولعين عذاري أهمية كبيرة بالنسبة للشعب البحريني منذ القدم فقد نظمت الأشعار والمواويل الشعبية بحقها، أيضًا هناك عدة أساطير قديمة نسجت حولها، كما تميزت هذه العين بظاهرة غريبة وهي أن ماءها يصل ليروي الأراضي والبساتين البعيدة، بينما النخيل والأراضي القريبة حول العين تعاني الجفاف، وبسبب تلك الظاهرة ظهر مثل شعبي يقول «عذاري تسقي البعيد وتترك القريب»، وغيرها من العيون كعين الحنينية في الرفاع وعين زيدان في البلاد القديم وعين السفاحية في جزيرة النبيه صالح، وعين سيادي في البسيتين وعراد، وعين الرحى في سترة، وعين الحكيم في شهركان، والأشهر لدى عامة الناس خاصة المنتشرة في الجزء الشمالي بالبحرين التي يبلغ عددها 25 ينبوعًا طبيعيًا أو أكثر، كانت بمنزلة وجهات سياحية يقصدها السياح من مختلف مناطق البحرين، حيثُ كانت تمثل لهم أهمية ترفيهية وفسحا جماعية، وكانت لدى البعض وجهة للبحث عن العلاج الطبيعي من الامراض الجلدية والبعض يبحث عن العلاج النفسي لما تمتلكه هذه الينابيع والعيون من قدسية خاصة بحسب وجهات النظر المتفاوتة آنذاك.
وضمن نتائج دراسة دكتوراه تمت دراستها حول مقومات السياحة البيئية لمملكة البحرين، فقد تم استطلاع آراء عينات الدراسة (ذوي الاختصاص والخبرات، المكاتب السياحية، الجمهور) فقد كان مدرجًا ضمن محور الإمكانات السياحية حول مساهمة العنصر الطبيعي في تنمية السياحة البيئية «العيون والمياه الجوفية» ضمن قائمة سبعة عناصر طبيعية أساسية تم اعتمادها للدراسة، فقد جاءت بحسب رأي الجمهور في المرتبة الخامسة، وبالنسبة إلى الخبراء فقد جاءت في المرتبة الأخيرة. أما بحسب رؤية عينة المكاتب السياحية في المملكة، فقد جاءت كذلك في المرتبة الاخيرة، ويدل ذلك على تراجع هذا العنصر الطبيعي المهم في التأثير على تنمية السياحة في المملكة. إلى جانب عمل تصاميم وخرائط لعدة عيون في المملكة بتوصية حول العمل على اعادتها وإحيائها، وكذلك فقد تمت دراسة وتقييم أشهر العيون، منها (عين عذاري وموقع عين الحنينية) التي كانت من أشهر المواقع السياحية الطبيعية الداخلية قديمًا في مملكة البحرين من حيث فاعليتها ومقوماتها، حيثُ لوحظ تراجع تقييمها من حيث الفاعلية ومقوماتها من قبل عينات الدراسة الرئيسة.
وختامًا، فإن مواصلة العمل على إحياء ورقة تأهيل العيون والينابيع الطبيعية بالمملكة، سوف يسهم بشكل جذري في تحقيق التنمية المستدامة، حيثُ إن المجتمعات المحلية عمومًا وسكان الجزر خصوصًا تستفيد من التنوع في الموارد المائية بجميع أشكالها، إذ يزود هذا التنوع المجتمعات بدرجة كبيرة من الاستقرار الاقتصادي والمعيشي الذي يفوق ما كان سائدا في المجتمعات التي تعتمد على عدد محدود من الموارد، وبإمكاننا في المملكة تنمية الموارد المائية خاصة العيون الطبيعية وإحياءها اصطناعيًا لتأخذ طابعها التراثي السابق، ولتلعب دورًا إيجابيا بالنسبة إلى هذه المجتمعات بواسطة أنشطة اقتصادية مجتمعية تسهم في زيادة الدخل الوطني وتوفير فرص عمل جديدة بواسطة الأنشطة السياحية المقامة في مواقع العيون والينابيع الطبيعية، التي تسهم في تنمية السياحة عمومًا والسياحة الداخلية بشكل خاص؛ لذا فإننا بحاجة الى مبادرات نوعية متخصصة تنشر الوعي وتؤكد تنمية مواردنا الوطنية لتسهم في عمليات البناء والتنمية المستدامة، حيث إن أغلب الدول التي تزدهر فيها السياحة ولا سيما السياحة المائية تعتمد على المسطحات المائية الداخلية كالينابيع والعيون والسواحل البحرية كعامل جذب سياحي مستدام.
{ مختصة في فلسفة الدراسات البيئية وآليات التنمية المستدامة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك