رغم التصفيق الحار الذي تخلل خطابه أمام الكونجرس، فإن أمريكا التي زارها نتنياهو مؤخرا ليست هي نفسها التي زارها قبلا ولا حتى التي زارها عام 2015 لإلقاء خطابه بالقاعة نفسها. والأمر لا يقتصر على وجود الآلاف في الشوارع احتجاجا على وجوده في بلادهم. فداخل القاعة نفسها، قاطع خطابه حوالي نصف الديمقراطيين في كل من المجلسين، بينما لم يزد عدد الأعضاء الذين قاطعوا خطابه عام 2015 على 58 ديمقراطيا. وقتها، رفض بعض المقاطعين الحضور لأسباب حزبية كونهم أدركوا أن نتنياهو، بدعوة من الجمهوريين، حضر لتحدى الرئيس «الديمقراطي» أوباما وتقريعه علنا بسبب إبرام اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي. أما هذه المرة، فإن الديمقراطيين المقاطعين قاطعوا بسبب الإبادة الجماعية في غزة ولا شيء آخر. وحتى الذين حضروا من الديمقراطيين، فلم يكونوا كلهم من الداعمين. فإلى جانب رشيدة طليب التي رفعت لافتة كُتب عليها «مجرم حرب»، كان من بينهم مثلا النائب اليهودي التقدمي جيري نادلر، الذي أمسك بكتاب الصحفي الإسرائيلي بن كاسبيت «أيام نتنياهو» الذي يوجه انتقادات لاذعة لنتنياهو وظهر وهو يقرأ الكتاب بدلا من الاستماع للخطاب. أكثر من ذلك، لأن نائبة الرئيس هي دستوريا رئيسة مجلس الشيوخ التي تجلس على المنصة بجانب رئيس مجلس النواب في مثل تلك المناسبات، فقد كان على الأقدم عضوية، السيناتور باتي موراي، أن تحل محل كاملا هاريس التي تعللت بموعد تحدد منذ فترة، لكن موراي رفضت هي الأخرى، بل ورفض من يليها في السلسلة، زعيم الأغلبية، السيناتور اليهودي تشاك شومر، فاعتلى المنصة السيناتور بن كاردين الذي سيتقاعد بنهاية مدة الكونجرس الحالي.
ولم يكن الزيف والتلفيق العنوان الأبرز لخطاب نتنياهو وحده، إذ اتضح أنه بعد مقاطعة كل هؤلاء الأعضاء، تم استجلاب أشخاص لشغل المقاعد الشاغرة أمام الكاميرات للإيحاء بأن المؤسسة التشريعية كلها تلتف حول نتنياهو، في الوقت الذي صار فيه واضحا لكل ذي عينين أن دعم إسرائيل لم يعد عابرا للحزبين وإنما صار بين الجمهوريين بالدرجة الأولى.
أما آلاف المحتجين خارج القاعة، فقد عاملتهم الشرطة الأمريكية مثلما عاملهم الضيف الصفيق الذي أهان المتظاهرين أمام نوابهم واتهمهم بالعمالة لإيران. وقد اعتقلت الشرطة الكثيرين، من بينهم مئات اليهود الأمريكيين الذي رفعوا شعارات ترفض أن تكون الإبادة الجماعية باسمهم كيهود.
ونتنياهو حرص قبل خطابه على لقاء قيادات المسيحية الصهيونية الداعمة بشدة لإسرائيل الذين قال لهم «ليس لدينا أصدقاء أفضل منكم». وهو بالفعل محق في ذلك. فالمسيحية الصهيونية تيار ديني أوروبي أمريكي يؤمن بأن عودة السيد المسيح للأرض لن تتحقق إلا بعودة اليهود للأرض المقدسة. ورغم أن هذا التيار في حقيقته معاد لليهود كديانة إلا أنه مؤيد بشدة لإسرائيل، ويتجاهل بالمطلق القهر الواقع على المسيحيين الفلسطينيين كالمسلمين منهم. وهذا التيار هو السبب وراء الدعم اللا محدود داخل الحزب الجمهوري لإسرائيل، بل إن ترامب قال صراحة إن اعترافه «بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل» كان لضمان دعم المسيحيين الصهاينة، لا اليهود الأمريكيين. غير أن المستقبل ينطوي على تراجع منظم حتى لدعم هذا التيار لإسرائيل. فقد نقلت تقارير صحفية عن دراسة لجامعة تل أبيب مفادها أن الأمريكيين الداعمين لإسرائيل لأسباب دينية بين شباب المسيحيين الأصوليين تحت سن الثلاثين، وصلوا إلى 23% بعد أن كانوا 68,9% عام 2021.
باختصار، أمريكا التي زارها نتنياهو ليست هي أمريكا نفسها التي طالما تباهي بأنها في جيبه!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك