في مايو 2024، امتلأت الصحافة العالمية بأخبار حول طلب «كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية» إصدار مذكرة اعتقال بحق كل من «بنيامين نتنياهو» رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه «يوآف غالانت» بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة خلال الحرب المستعرة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى الآن، حيث قوبل الطلب بترحيب من المدافعين عن القانون الدولي وحقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية التي أعلنت أنها «خطوة حاسمة نحو العدالة»، بينما بدت الحكومات الغربية على النقيض أقل تقبلاً له.
وعلى الرغم من ادعاء حكومات الدول الغربية أنها الأولى بالعالم فيما يتعلق باحترام سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان؛ فإنهم نددوا بقرار المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية رغم الانتهاكات الموثقة. ولم يكتف «جو بايدن» الرئيس الأمريكي بوصف أوامر الاعتقال بأنها «شائنة»، بل أصدر أعضاء مجلس النواب الأمريكي تشريعات انتقامية تفرض عقوبات على المدعي العام وعلى هيئة المحكمة الجنائية الدولية وحتى أسرهم.
واتخذت الحكومة البريطانية موقفًا مشابهًا تجاه المحكمة؛ حيث رفض «ريشي سوناك» رئيس الوزراء حينها مذكرات الاعتقال الصادرة بحق «نتنياهو وغالانت» ووصفها بأنها «تطور غير مفيد على الإطلاق»، مضيفًا بأنها لن تمثل «أي فارق لإرساء السلام في الشرق الأوسط». وأوضح المحامي الدولي الشهير في حقوق الإنسان «جيفري روبرتسون» أن واشنطن مارست ضغوطًا شديدة على المملكة المتحدة لإصدار اعتراضها حيال الجهود التي تمارسها المحكمة الجنائية الدولية لوقف حرب غزة، لأن الولايات المتحدة ليست عضوًا بالمحكمة، مما يعني أن الأخيرة «تتوقع من المملكة المتحدة رعاية مصالحها هناك».
وكتب «د. إتش إيه هيلير» وهو زميل مشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة لدراسات الدفاع والأمن (RUSI)، أن حكومة «سوناك» أصدرت «تحدياً سرياً» لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية بشأن إسرائيل، وبالتالي انضمت إلى أبرز الداعمين الدوليين لإسرائيل كالولايات المتحدة وألمانيا، في محاولة للضغط على المحكمة سياسياً؛ حتى لا تعقد جلسة استماع لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين عما اقترفوه من جرائم حرب بحق الفلسطينيين.
وكان ينبغي عليها، عوضًا عن ذلك، أن تتخذ موقفاً مختلفًا كـ«الدفاع بقوة عن المحكمة الجنائية الدولية» ومدعيها العام، باعتبارها أحد الموقعين على نظام روما الأساسي الذي شكل المحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن حقيقة أن «خان» محامٍ بريطاني.
وبعد شهرين، رحل حزب المحافظين بزعامة «سوناك» عن الحكومة مُفسحًا الطريق لحزب العمال بزعامة السير «كير ستارمر»، ليعلن في أواخر يوليو أن الحكومة البريطانية لن تحاول منع المحكمة الجنائية الدولية من إصدار أي أوامر اعتقال بحق القادة الإسرائيليين المذكورين أعلاه، إذا كان رأي هيئة المحكمة قد استقر باعتباره الرد الصحيح على الادعاءات والأدلة المقدمة.
كما أقدمت حكومة حزب العمال الجديدة على تغييرات أخرى كجزء مما يسمى «الموقف المتوازن بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني» والذي يتضمن استعادة تمويل المملكة المتحدة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطيني الشرق الأدنى «الأونروا»، وإعادة النظر في وقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل. وأشار «مارك لاندلر وستيفن كاسل» من صحيفة نيويورك تايمز، «إلى وجود حكومة الآن في لندن مستعدة لممارسة المزيد من الضغوط» على إسرائيل، وإيلاء «اهتمام أكبر للمؤسسات القانونية الدولية» مقارنة بنظرائها في العواصم الغربية الأخرى.
ولم يفاجأ المعلقون ووسائل الإعلام الغربية من تأكيد الحكومة البريطانية في 26 يوليو أنها لن تتقدم بطعن قانوني على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في هذه القضية؛ حيث يمثل تراجع حكومة حزب العمال عن موقف أسلافها بشأن أوامر الاعتقال جزءاً من إعادة تنظيم أوسع للسياسة البريطانية تجاه الحرب في غزة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. كما يمثل رغبة عدد من الناخبين البريطانيين في رؤية «إجراء أكثر صرامة ضد إسرائيل» مقارنة بموقف الحكومة السابقة؛ فمن غير المستغرب أن يخرج «ديفيد لامي» وزير الخارجية المعين حديثًا بوعد بـ«موقف متوازن» من المملكة المتحدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وتحقيقًا لذلك، انضمت المملكة المتحدة مؤخرًا إلى العديد من الدول الغربية الأخرى في دعمهم لجهود الأونروا وإعادة 21 مليون جنيه إسترليني من التمويل الذي تشتد الحاجة إليه. ووصفت مؤسسة «أكشن إيد» الخيرية هذه الخطوة بأنها «خطوة طال انتظارها» لاستعادة أحد «شرايين الحياة الحيوية» للمدنيين الفلسطينيين الذين يعانون داخل غزة. وبعد الترحيب بتلك الخطوة، حث «هيلير» على «أن تتبع تلك الخطوة خطوات بريطانية أخرى لتحسين مهمات نقل المساعدات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة». وذلك في إشارة واضحة إلى الجهود الإسرائيلية المستمرة لتعطيل تدفق المساعدات الإنسانية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وإلى جانب ذلك أعلنت الحكومة البريطانية الجديدة عن احتمالية وقف جميع صادرات الأسلحة من المملكة المتحدة إلى إسرائيل. وبذلك قد تنضم إلى (كندا، وإيطاليا، وإسبانيا، وهولندا، وبلجيكا، وسلوفينيا) في عدم إرسال أسلحة لـ«تل أبيب»، وبهذا يكون هذا القرار معاكس لما أراده وزير الخارجية السابق اللورد «كاميرون»، مبررًا ذلك بأن تراخيص تصدير الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل ضئيلة مقارنة بالولايات المتحدة. وهو تبرير «غير ذي صلة» عند النظر في الالتزامات القانونية المنصوص عليها في المعايير الخاصة بتراخيص التصدير الاستراتيجية، والتي تؤكد أن الحكومة البريطانية ملزمة «بمنع نقل المعدات العسكرية حيثما يكون هناك خطر واضح بأن مثل هذه المعدات قد تستخدم لتسهيل انتهاك القانون الدولي».
وأشار «هيلير» إلى أن عددًا لا بأس به من السياسيين البريطانيين قد رأوا أن تصدير تلك المعدات بمثابة «انتهاك لتلك المعايير بالفعل». ودعت رسالة مشتركة لأكثر من 130 برلمانيًا -بمن في ذلك 46 نائبًا من حزب العمال- في مارس 2024 اللورد «كاميرون» إلى وقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل، كما أشارت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم، «أليسيا كيرنز» إلى أن إسرائيل انتهكت القانون الإنساني الدولي في غزة والأراضي المحتلة، وذهبت إلى ما هو أبعد من الدفاع عن النفس، مما يعني أن بريطانيا باتت ملزمة قانونًا بوقف مثل هذه العمليات لنقل الأسلحة.
على العموم فإنه رغم تغلب الحكومة البريطانية على ما وصفه روبرتسون بـ «الاختبار الأخلاقي الأول للحكومة الجديدة والذي واجهه «كير ستارمر» ومستشاريه السياسيين، لا تزال تواجه تلك الحكومة العمالية الجديدة العديد من الأسئلة الأخرى التي لم يتم حلها بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بما في ذلك ما إذا كانت ستنضم إلى دول مثل إسبانيا والنرويج وأيرلندا في الاعتراف الدبلوماسي الكامل بدولة فلسطينية مستقلة. وفي هذا الصدد، أشار زكي صراف، المسؤول القانوني في المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين ومقره لندن، أنه «لا يمكن أن يكون هناك نهج اختياري» في السياسة الخارجية البريطانية تجاه مثل هذه الحرب، كما يجب تطبيق القانون الدولي «دون خوف أو محاباة» وتحديدًا حينما يتعلق الأمر بأوامر الاعتقال التي اقترحتها المحكمة الجنائية الدولية ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك