في الـ20 من مايو الماضي، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية «كريم خان» أنه سيسعى إلى إصدار مذكرات اعتقال دولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» ووزير دفاعه «يوآف جالانت» وذلك لارتكابهما جرائم الحرب، وكان هذا الإعلان بمثابة توبيخ قانوني رد عليه أعضاء الكونجرس الأمريكي المؤيدون لإسرائيل بتهديدات شخصية مباشرة ضد خان وزملائه، في محاولة فجة وغير أخلاقية لإسكات المحكمة عن محاسبة قادة إسرائيل على انتهاكاتهم العديدة الموثقة، تاريخيًا واستمرارها في الوقت الحاضر.
وبعد فشل تلك التهديدات، اختار رؤساء غرفتي الكونجرس الأمريكي –رئيس مجلس النواب الجمهوري «مايك جونسون»، وزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ «تشاك شومر» – دعوة نتنياهو للتحدث إلى أعضاء الكونجرس في واشنطن، وبالتالي منح قائد أجنبي متهم صراحة بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية منبرًا للتحدث في دولة تعلن نفسها زورًا المدافع الأول عن حقوق الإنسان وسيادة القانون الدولي.
قبل «نتنياهو» الدعوة وألقى خطابًا في الكونجرس يوم 24 من يوليو، وقد اتفقت وسائل الإعلام الغربية والمعلقون على أن خطابه لم يتضمن شيئًا من الموضوعية؛ حيث رفض تقديم أي مبرر لمواصلة حرب غزة وتدميرها، وقلل بشكل خطير من المعاناة الإنسانية الهائلة التي تسبب فيها جراء ذلك، متجاهلًا بشكل صارخ ضرورة احترام إسرائيل للقانون الدولي الإنساني.
وقد انقسم المشرعون الأمريكيون إلى فئتين، بين من أعربوا عن تعاطفهم مع محنة الشعب الفلسطيني ومقاطعتهم للخطاب بسبب الاشمئزاز من تقديم الدعوة إليه، وبين جمهور مؤيد لإسرائيل ومرحب بحضور «نتنياهو» بطريقة قال عنها «جيلز باريس» و«لويس إمبرت» من صحيفة لوموند الفرنسية، بأن نتنياهو لم يكن يحلم بأن يكون لديه تأييد مثل هذا في بلده أو أي دولة أخرى في العالم بأسره». وعليه فإن «آرون ديفيد ميلر» و«آدم إسرائيلفيتز» بمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، محقان في الإشارة إلى أن خطاب نتنياهو أكثر أهمية في «ما يعكسه»، بمعنى أنه على الرغم من كل الانتهاكات والملاحقات القضائية الموثقة من قبل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، فإن أغلبية أعضاء الهيئة التشريعية الأمريكية لا يزالون يقفون للأسف بشكل غير مفاجئ في دعم حرب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
وفيما يتعلق بالعديد من المزاعم والادعاءات التي قدمها نتنياهو في خطابه، فقد ناقشتها وسائل الإعلام والمعلقون الغربيون بدقة وبالأدلة. وفي هذا الصدد، أوضح «ويليام ويشلر» نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق، والذي يشغل الآن منصب كبير مديري برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي؛ حيث إنه لا جديد فيما قاله نتنياهو، بل كان «مجموعة كاملة تقريبًا من التصريحات التي أدلى بها بالفعل سابقًا» وهي «مفبركة بشكل جيد لإلقائها أمام الشعب الأمريكي»، وليلقي باتهامات باطلة على المتظاهرين، وطلاب وأساتذة الجامعات المناهضين للحرب، مدينًا إيران بتمويلهم.
وفي حين وصفت «باربرا بليت آشر» في بي بي سي، بأن الخطاب يعتبر «دفاعًا ناريًا» عن حرب إسرائيل في غزة، فإن نتنياهو لم يذكر جهود التفاوض المبذولة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الذين ما زالوا محتجزين لدى حماس، كما لم يذكر على الإطلاق أي سبل دبلوماسية للاتفاق على وقف إطلاق النار لإنهاء القتال. وأشارت «إميليا بيرس» نائبة مدير المجلس الأطلسي، أنه ينبغي أن نتذكر هذا الخطاب بسبب «التزامه بتقديم تمثيل مضلل للواقع الإنساني» داخل غزة.
وعلى النقيض تمامًا من إصرار نتنياهو على أن حصيلة القتلى المدنيين في مدينة رفح المحاصرة كان «صفرًا»، شبه «فيليب لازاريني» المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، المدينة بـ «الجحيم على الأرض» حيث يوجد آلاف الضحايا من النساء والأطفال بين المدنيين الذين قُتلوا نتيجة الغارات الجوية الإسرائيلية على المدينة. كما وثق رئيس وفد اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة «ويليام شومبورج»، حجم «الضحايا والإصابات المروعة» التي تعرض لها عشرات الآلاف من المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء.
وفيما يتعلق بالرد على حالات الانتهاكات، التي أسماها نتنياهو «حوادث فردية»؛ حيث قُتل «عشرات المدنيين» عن غير قصد جراء الإصابة بشظايا، ردت شبكة سي إن إن بأن الغارات الجوية المتتالية منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم قتلت أكثر من 40 ألفًا وأصابت ما يقرب من 100 ألفًا.
وعلاوة على ذلك، أشارت «كات لونسدورف» من الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية أن ادعاء نتنياهو بأن إسرائيل «أبعدت المدنيين عن الأذى» خلال حملاتها الجوية هو مجرد أكاذيب، إذ أن غزة ذاتها تعاني الأمرين لأن أكثر من 80% من أراضيها خضعت لأوامر الإخلاء أو تم إعلانها مناطق «محظورة» من قبل الجيش الإسرائيلي، ناهيك عن استهداف يومي ما يسمى بـ«المناطق الإنسانية» عمدًا بالغارات الجوية.
وردًا على إصرار نتنياهو على أن اتهامات المحكمة الجنائية الدولية له بتعمده تجويع المدنيين الفلسطينيين بأنها «مختلقة بالكامل»، قالت «روث مايكلسون» من صحيفة الجارديان، مشيرة «إلى إحصاءات الأمم المتحدة القائلة بأن 28 ألف شاحنة مساعدات فقط سُمح لها بالمرور، ولكنها لم تتمكن من توزيع المساعدات المطلوبة». وأضافت أن غزة معرضة لخطر التعرض لـ «مجاعة كارثية» وأكدت «سالي أبي خليل» مديرة مكتب منظمة أوكسفام للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي واحدة من العديد من العاملين في المجال الإنساني الذين اتهموا إسرائيل بـ «عرقلة» نقل المساعدات التي تشتد الحاجة إليها في غزة.
وعلى الرغم من كل تلك الردود السابقة، وانتقاد وسائل الإعلام الغربية لمزاعم نتنياهو، وتجاهله الكارثة الإنسانية التي تتكشف داخل غزة، والعواقب الأوسع نطاقاً لحالة عدم الاستقرار الإقليمي، إلا أن من حضر الخطاب من المشرعين الأمريكيين لم يعترضوا عليه؛ حيث أعرب «باريس» و«إمبرت» عن أسفهما على أنهم منحوا نتنياهو ما يقرب من 79 تصفيقًا حارًا منفصلاً أثناء تصريحاته. وجاء خطاب نتنياهو ليظهر «براعته في تعزيز مواقفه» كما وصفه «يائير روزنبرغ» من مجلة ذا أتلانتيك؛ حيث أنه يظهر تلك البراعة عبر استخدام الخطب المحددة لجذب انتباه الجمهور وتصوير نفسه محليًا ودولياً كرجل دولة لا يستهان به.
ويُلاحظ أن نتنياهو استخدم خطابه في محاولة لمواءمة مصالح السياسة الخارجية الأمريكية مع نظيرتها الإسرائيلية. ففي خطابه قال «أعداؤنا هم أعداؤكم» و«نصرنا سيكون نصركم»، مؤكدًا خطورة التهديدات المنبثقة من النظام الإيراني ووكلائه في المنطقة، وبتشبيهه إسرائيل والولايات المتحدة بـ«قوى الحضارة» التي يجب أن «تقف معًا».
ومع ذلك، فإن قوة الدعم التي أظهرها أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ الذين استمعوا لكلمة نتنياهو لا تعكس على الإطلاق الآراء واسعة النطاق تجاه إسرائيل والحرب في غزة بين سكان الولايات المتحدة. فوفقًا لمؤسسة جالوب، فإن أغلبية المواطنين الأمريكيين (55%) تشجب حرب إسرائيل على غزة، كما أنه داخل الحزب الجمهوري، الذي أشاد نوابه بصوت عالٍ بخطاب نتنياهو، فإن أكثر من 30% من أعضائه الذين تم استطلاع آرائهم، لديهم وجهات نظر سلبية تجاه نتنياهو، كما أن 56% من استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة «داتا فور بروجريس» البحثية تدعم وقف إطلاق النار الدائم في غزة.
ومن ناحية أخرى، انخفض الدعم لإسرائيل بين الناخبين الديمقراطيين والمستقلين الأمريكيين منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023. وعلى الرغم من أن ما يقرب من نصف أعضاء الكونجرس الديمقراطيين في الولايات المتحدة قاطعوا الخطاب، صرح السيناتور الديمقراطي عن ولاية «فيرمونت بيرني ساندرز» بأنه وآخرين لا يمكنهم الترحيب بـ «مجرم حرب» في واشنطن يرأس «حكومة يمينية فاشية متطرفة»، إلا أن النصف الآخر من البرلمانيين الديمقراطيين ظلوا في الكونجرس للترحيب بنتنياهو على الرغم من المعارضة الساحقة من ناخبي الحزب وخاصة الشباب منهم.
وبحسب «ماثيو داس» نائب الرئيس التنفيذي لمركز السياسة الدولية ومقره واشنطن، فإن هذا الفشل المتكرر في محاسبة إسرائيل ينبع بشكل مباشر من «استسلام» جو بايدن أمام «الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة» حتى مع «انتهاكاتها الصارخة والممنهجة للقانون الدولي وحقوق الإنسان». وفي حين أظهرت نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية للرئاسة «كامالا هاريس» «نبرة أكثر صرامة» في المحادثات مع نتنياهو بعد الخطاب وأكدت أنها لن تصمت. إلا أن «بيرند ديبوسمان جونيور» من بي بي سي نيوز، أكد أن تظل الحقيقة فشل واشنطن تمامًا في الدفاع عن حقوق الإنسان والقانون الدولي من خلال دعمها المستمر لحرب غزة ولخطط نتنياهو وحكومته الفاشية.
وعلى العموم، فإن خطاب نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي كان مثالاً آخر على أن تصريحاته بلا «جدوى» من الناحية العملية، كما أن الاستجابة التي تلقاها من الكونجرس تؤكد أن موقف الإدارة الأمريكية من الحرب وعلاقاتها المستقبلية مع إسرائيل لن تصبح أكثر عدالة في أي وقت قريب.
وبينما أشير إلى أن هاريس أخبرت نتنياهو وجهاً لوجه أن «الوقت قد حان لإنهاء هذه الحرب»، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي يرى أن الوقت في صالحه، وأنه في غضون بضعة أشهر يمكن أن تكون هناك إدارة في واشنطن لا تفرض قيودًا على إسرائيل المصرة على إلحاق أضرار جسيمة بالفلسطينيين وانتهاك حقوقهم المشروعة التي نصت عليها القرارات الدولية والاتفاقات التي تم التوصل إليها بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بشهادة وضمان الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وروسيا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك