نحن أمام حربٍ طويلة ومعقدة نخوضها ضد التلوث منذ أكثر من قرن من الزمان، وكلما انتصرنا في معركة واحدة فاصلة ضد أحد الملوثات، انكشفت وظهرت لنا ملوثات جديدة لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال أحد، وتكون أشد قوة وبأساً، وأكثر وطأة على مكونات البيئة وصحة الإنسان من الملوثات السابقة، وفي تقديري أن الإنسان لن ينجح في الانتصار كلياً في هذه الحرب الماراثونية المتغيرة في هويتها وقوتها، وإنما ستبقى معنا ويضطر الإنسان أن يتعايش معها في هدنة طويلة الأمد، فلا يستطيع التخلص منها جذريا وكليا.
ففي كل يوم نجد أنفسنا أمام ساحة جديدة نحارب فيها هذه الملوثات ونصطدم معها بشكلٍ مباشر، حيث إن المعارك الدائرة ليست ثابتة في موقع واحد وإنما تنتقل من موقع إلى آخر، فكانت ساحة المعارك في البداية هي مكونات البيئة من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة وفي المواقع التي يراها الإنسان، ثم انتقلت مع الوقت ومع ازدياد مصادر التلوث والملوثات وارتفاع أحجامها إلى ساحات بعيدة جداً ونائية لا يمكن رؤيتها أو الإحساس بوجودها، مثل سفوح الجبال العالية الشاهقة، أو الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي ومياه المحيطات المتجمدة، أو أعماق البحار السحيقة الشديدة البرودة والظلمة وعلى بعد أكثر من عشرة كيلومترات تحت سطح المحيطات.
وبعد عقود من الزمان وجدنا أنفسنا في صراع مع الملوثات من نوعٍ جديد وخطير في داخل أجسامنا، بل في كل عضو من جسدنا صغيرا كان أم كبيرا، فانتقلت ساحة المعركة إلى جسم الإنسان نفسه، وهددت كيانه واستدامة وجوده على سطح الأرض. فقد كشف الإنسان عن وجود الملوثات أولاً في الجهاز التنفسي أو الرئتين، حيث يوجد خط الدفاع الأول أمام غزو الملوثات، ثم امتدت ساحة القتال إلى الدورة الدموية، ومنها إلى كل خلية من خلايا الجسد، سواء أكانت خلايا المخ، أو الكلية، أو الأنسجة القلبية، أو أنسجة المشيمة التي تمد الجنين بالغذاء والحياة، أو حليب الأم.
وفي الوقت نفسه، فإن طبيعة هذا العدو وهويته اختلفت عبر الزمن، فكلما تعرف الإنسان على طبيعة وخصائص وهوية أحد الأعداء ونجح في التعامل معه والتغلب عليه والحد من انبعاثه إلى مكونات البيئة، ظهر عدو جديد آخر وغريب على المجتمع البشري ولا يعرف عنه الكثير، من حيث تصرفه عند ولوجه في مكونات البيئة، ومن حيث قدرته على التراكم والتركيز في عناصر البيئة واحتمالية انتقاله وتراكمه في جسم الإنسان، إضافة إلى التهديدات التي قد يشكلها على الأمن الصحي للبشر، وشدة الأمراض التي ستُصيب الإنسان.
فالعدو في العقد الأول من القرن المنصرم كان يتمثل في الدخان الأسود، أو ما يعرف بالجسيمات الدقيقة الكربونية، وأكاسيد الكبريت والنيتروجين والكربون في الهواء الجوي، إضافة إلى العناصر الثقيلة كالرصاص والزئبق والكروميوم والكادميوم في المسطحات المائية والتربة. وتمكن الإنسان بعد معارك ضارية ضد هذه الملوثات أن يعرف خصائصها جيداً ونقاط قوتها وضعفها، فقام بتطوير الوسائل والسبل والتقنيات للتحكم فيها ومنع انطلاقها كلياً إلى عناصر البيئة، أو الخفض من انبعاثاتها. وهذه الملوثات أصبحت الآن قديمة وتقليدية وتغلب عليها الإنسان وأصبحت الآن حالة من الهدنة طويلة الأمد بينها وبين الإنسان، فظهرت في منتصف القرن الماضي ملوثات حديثة غير تقليدية، فوجد الإنسان نفسه يواجه عدواً جديداً لا يعرف عنه أي شيء، ولا يعرف كيف يتعامل معه، مثل غاز الأوزون والملوثات المؤكسدة الأخرى، وثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى المركبات العضوية المتعددة الفلورين والكلورين الأروماتيكية الثابتة والمستقرة وغير الأروماتيكية. وبعض هذه الملوثات انتشر على نطاق جغرافي واسع جداً بحيث إن ساحة الصراع معها غطت الكرة الأرضية برمتها، مما استدعي تجنيد كل قوى البشر في كل العالم للتصدي لها وتجنب تهديداتها ومخاطرها الصحية على الإنسان وعلى سلامة الكرة الأرضية.
واليوم يواجه البشر ومنذ نحو عقد من الزمن عدواً شرساً من نوع جديد لم يخطر على بال أحد، ودائرة الصراع معه شملت كل شبرٍ صغير أو كبير من كوكبنا، وغطت كل موقع قريب أو بعيد عن أنشطة البشر، بل امتدت المعارك إلى كل خلية من خلايا جسم الإنسان، وهذا العدو هو المواد البلاستيكية والمخلفات التي تنجم عن استخدامها ثم التخلص منها.
فمنذ قرابة عشر سنوات والعلماء منشغلون بالتعرف عن كثب على نقاط الضعف والقوة لهذا العدو الذي تغلغل بعمق في كل مكونات بيئتنا، وانتقل إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، ثم إلى جسد الإنسان. وهنا أريد أن أُركز على وصول زحف هذه المخلفات البلاستيكية إلى حليب الأم الذي يمثل تحولاً خطيراً وتهديداً عميقاً ليس لأطفالنا في هذا الجيل، وإنما للأجيال اللاحقة والمستقبلية. فانتقال هذا العدو إلى حليب الأم له مدلولات ومؤشرات كثيرة، منها أن هذا العدو تمكن بنجاح من تخطي والقفز على جميع الموانع والحواجز الحيوية الموجودة في جسم الإنسان، كحاجز الدورة الدموية، وغزو هذا العدو لجدار الخلايا وتراكمه هناك واحتلاله لهذا الموقع المتقدم جداً للبشر، إضافة على أن وجود المخلفات البلاستيكية في حليب الأم يؤكد انتقال المعركة من هذا الجيل الحالي إلى الأجيال المتعاقبة، ونجاح هذا العدو الجديد من كسر حاجز الأجيال وعبور الحدود الزمانية.
فأول دراسة كشفت عن وجود الجسيمات الميكروبلاستيكية في حليب الأم نُشرت في 30 يونيو 2022 في مجلة «المواد المتبلمرة» (Polymers) تحت عنوان: «الكشف والتشخيص عن الميكروبلاستيك في حليب الأم باستخدام جهاز رامان مايكروسبكتروسكوبي»، والتي صدرت كعدد خاص حول: «تحلل المواد المتبلمرة وتأثيراتها البيئية». وفي هذه الدراسة جُمعت عينات من حليب الأم من 34 امرأة، وتم الكشف ولأول مرة لجسيمات المخلفات المايكروبلاستيكية في 26 عينة من مجموع 34، وأكثر أنواع الميكروبلاستيك كان البولي إيثلين، وبولي فاينل كلوريد، وبولي بروبلين، حيث تراوح حجم الجسيمات من 2 إلى 12 مايكرومتراً.
وجدير بالذكر أن حليب الأم منذ الخمسينيات من القرن المنصرم أصبح المؤشر الحيوي الذي يُثبت تعرض الإنسان لشتى أنواع الملوثات الموجودة في بيئتنا. وآخر دراسة نُشرت، بحسب معلوماتي حول وجود الملوثات الجديدة في حليب الأم هي في 24 يناير 2024 في مجلة «العلوم والتقنية البيئية» تحت عنوان: «تأثير التعرض البيئي على دهون حليب الثدي البشري في الأمراض المناعية المستقبلية»، حيث كشفت هذه الدراسة عن وجود ملوثات عضوية متعددة الفلورين (perfluorinated alkyl substances (PFASs)) في حليب أمهات السويد.
وهكذا نجد أنفسنا نخوض حرباً ضروساً لا نهاية لها بسبب المنتجات الجديدة التي نُطلقها في الأسواق بدون دراسات كافية وشاملة، والتي تنجم عنها مخلفات وملوثات غازية، وسائلة، وصلبة قديمة وحديثة ومتجددة، وفي كل مرة علينا الدخول في معركة جديدة لم نحسب لها أي حساب للتصدي لملوث جديد يدخل بيئتنا وأجسادنا، ثم علينا أن نجد الحلول العملية والمستدامة للتعامل معها، وفي تقديري فإن هذه الحرب مع الملوثات لن تنتهي أبداً، وستصبح الملوثات جزءاً لا يتجزأ من عناصر بيئتنا ومن السلسلة الغذائية التي تنتهي أخيراً بالإنسان.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك