في إطار تعزيز الوعي المجتمعي وتحقيق الاستقرار الأسري، نظم المجلس الأعلى للمرأة بالتعاون مع وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف برنامجا توعويا بعنوان «الوساطة في المسائل الشرعية». يهدف البرنامج إلى تسليط الضوء على الخدمات المقدمة من قبل مكتب التوفيق الأسري التابع لوزارة العدل ودوره في حل الخلافات الزوجية وتحقيق الاستقرار الأسري على المستوى الوطني.
خلال حضوري البرنامج، جلست إلى جانبي امرأة في الثلاثينات من عمرها، تبدو عليها آثار الإرهاق ومن المداخلة التي تقدمت بها يتضح تصدع علاقتها الزوجية. بجانبها تجلس ابنتها، التي لم تتجاوز السبع سنوات، تغرق في دفترها، تنسج ببراءتها عبارات «أحبك أمي» وترسم وكأنها تعيد ترتيب حياة أمها بأسلوب طفولي. بين الحين والآخر، كنت أنظر إليها وأبدي إعجابي بصمت، مستشعرًا عمق الحب من أناملها. في نهاية الندوة، اقتربت مني الطفلة بنظرة بريئة وقدمت لي قصاصة مطوية بابتسامة خجولة وقالت: «هذه لك». فتحتها لأجد رسمة لفتاة بفستان مزين بقلب كبير. هدية صغيرة لكنها بحجم الكون، شعرت بمشاعر مختلطة حينها. تساءلت في نفسي: ألا تستحق هذه الصغيرة أن تنشأ في بيئة آمنة، في ظل أبوين متفاهمين، بعيدا عن النزاعات والتوترات؟
الزواج ليس مجرد قرار، بل هو التزام عميق يتخذه الشخص بروحه وقلبه. هو البنية التحتية التي تُبنى عليها أسرته، والشريك الذي يسير معه في دروب الحياة، والمأوى الذي يحتضنه في كل الأوقات. يعتبر الزواج حجر الأساس في بناء المجتمع وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، لذلك يجب أن يكون هناك إعداد دقيق وحقيقي للمقبلين على هذه الرحلة. ومن الضروري وجود برنامج توعوي إلزامي، تماما كما هو الحال في شرط التقدم بشهادة الفحص الطبي قبل عقد القران، لتمهيد الطريق أمام الأزواج لتأسيس حياة مشتركة صحية مليئة بالتفاهم والاحترام المتبادل.
الغاية من هذه التهيئة ليست إجراءً روتينيا فحسب، بل هو إعداد لبناء أسرة قوية تنبض بالحب والتفاهم، أسرة قادرة على إنتاج وتربية أبناء يتمتعون بصحة نفسية واستقرار عاطفي. أبناء يصبحون نجوما تضيء مستقبل أوطانهم. هذا الإعداد يمكن أن يحد من معدلات الطلاق والنزاعات الأسرية، ويعزز من تماسك المجتمع واستقراره، ليصبح نسيجا متينا من العلاقات الإنسانية القوية والمستدامة.
تجربة تستحق الإشادة:
أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة برنامج «إعداد» الذي يهدف إلى تأهيل الشباب المقبلين على الزواج وتمكينهم من تحمل مسؤولياتهم الأسرية وتزويدهم بالمعرفة والمهارات اللازمة لبناء أسرة آمنة ومستقرة. يشمل البرنامج ورش عمل ومحاضرات تتناول مهارات التواصل وحل النزاعات، بالإضافة إلى تقديم استشارات نفسية، اجتماعية، دينية، أسرية واقتصادية للمقبلين على الارتباط. ويكون حضور البرنامج إلزاميا لمستحقي المنحة المالية للمتزوجين (الزوج والزوجة).
لا يخفى على الجميع تنامي ظاهرة الطلاق في مجتمعاتنا العربية بشكل عام في الآونة الأخيرة، مما يثير القلق ويؤكد أهمية التفكير بشكل جاد في كيفية إعداد الشباب المقبلين على الزواج من النواحي النفسية والاجتماعية. لتجنب الخلافات الزوجية التي تصل بهم للطلاق. تشير الدراسات إلى أن التأهيل المسبق يلعب دورًا حاسما في تقليل النزاعات الزوجية وزيادة فرص النجاح الزوجي. وفقا لدراسة نشرت في مجلة «Journal of Family Psychology» التي تصدر عن الجمعية الأمريكية لعلم النفس، تبين أن الأزواج الذين شاركوا في برامج التأهيل قبل الزواج كانت نسبة الطلاق لديهم أقل 30% مقارنة بأولئك الذين لم يشاركوا في تلك البرامج. وهذه النتائج تؤكد بشكل قاطع أهمية الاستثمار في التأهيل النفسي والاجتماعي لبناء علاقات زوجية ناجحة.
بناء علاقات زوجية صحية ومستدامة يتطلب العديد من الاستعدادات النفسية والفكرية، إلى جانب برامج توجيهية. هذه البرامج ليست السبيل الوحيد لنجاح العلاقة الزوجية، لكنها تسهم بشكل كبير في توفير المهارات الضرورية المطلوبة للتعامل مع التحديات. بعيدا عن التوقعات المثالية التي تروجها المسلسلات ومنصات التواصل، من المهم أن ندرك أن الزواج هو علاقة تشاركية تتطلب الوعي والصبر والقدرة على التفاهم المتبادل للتغلب على أي عقبة محتملة، مما يعزز فرص النجاح والاستقرار في هذه العلاقة. كمجتمع، يجب أن نتكاتف لتقديم الدعم والتوجيه للشباب المقبلين على هذه المرحلة، لضمان إقامة علاقات مثمرة ومستقرة.
وفقا لجون غراي في كتابه الشهير «الرجال من المريخ والنساء من الزهرة»، التواصل الفعال هو الأساس المتين للعلاقات الصحية والمزدهرة. إن فهم الفروق النفسية والاجتماعية العميقة بين الجنسين لا يحسن فقط من قدرة الطرفين على التواصل بفعالية، بل يفتح أبواباً لحل الخلافات وتأسيس جسور من الفهم العميق. هذا الوعي المتبادل يعزز الاحترام ويؤسس لعلاقات قائمة على الثقة والتفاهم، مما يخلق روابط قوية ودائمة تتحدى الزمن والصعاب.
بدعم هذه المبادرات، يمكننا أن نخلق جيلا من الأزواج والآباء والأمهات الذين يتمتعون بمهارات التواصل والتفاهم، الأمر الذي يعزز من لحمة النسيج الاجتماعي ومتانته، ويشكل استثماراً ذا مردودٍ إيجابي على حاضرنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا.
فلنعمل سويا في سبيل تحقيق هذه الغاية السامية، ولنكن عاملا للتغيير الإيجابي، ساعين لإنشاء مجتمعات تنبض بالأمان والاستقرار، حيث ينعم أطفالنا بطفولة مفعمة بالحب والفرح، على نحو يليق بتلك الطفلة الملهمة التي كانت وراء كتابتي لهذه السطور.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك