في الحادي عشر من يوليو 2024 أعلنت وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنية إنشاء مكتب اتصال لحلف شمال الأطلسي «الناتو»، وواقع الأمر أن ذلك القرار كان أحد نتائج قمة الحلف في واشنطن التي عقدت خلال الفترة من 9-11 يوليو العام الحالي، تلك القمة التي أسفرت عن نتائج مهمة إلا أنه من وجهة نظر بحثية دائماً ما ننظر إلى موقع منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي من نتائج قمم تلك المنظمات وقد تمثلت في ثلاثة أمور الأول: مناقشة قادة الحلف لتقرير خاص حول مستقبل علاقة حلف الناتو بدول الجنوب والتي تضم: الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والساحل وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، والثاني: مرور عشرين عاماً على إطلاق الحلف مبادرة اسطنبول للتعاون عام 2004 والتي انضمت إليها أربع دول خليجية وبقيت كل من السعودية وسلطنة عمان خارجها، والثالث: تعيين رئيس وزراء هولندا السابق أمينا عاما جديدا للحلف.
وعود على ذي بدء، فمن خلال تحليل البيان الرسمي الأردني نجد أنه قد أشار إلى أن تأسيس ذلك المكتب قد جاء في إطار التعاون وإظهار التزام الحلف بتعزيز التعاون مع دول الجوار مع الإشارة إلى أن البيان الختامي لقمة الحلف في ليتوانيا عام 2023 كان قد نوه عن هذا القرار.
وقبيل الحديث عن دلالات تأسيس ذلك المركز ينبغي التأكيد على أن علاقات الأردن بالحلف قد تضمنت العديد من مجالات التعاون خلال السنوات السابقة، فالأردن هو أحد أعضاء مبادرة الحوار المتوسطي التي أطلقها الحلف عام 1994 وتضم سبع دول مشاطئة للبحر المتوسط وقد شهد هذا العام مرور الذكرى الثلاثين على إطلاقه، وفي عام 2005 قامت كاسحة ألغام تابعة لحلف الناتو بزيارة ميناء العقبة الأردني استمرت ثلاثة أيام، وفي عام 2013 قدم حلف الناتو تدريباً عملياً لحماية المدنيين أثناء الحروب استفاد منه 100 ألف فرد في عدة مدن أردنية، وتلك أمثلة على سبيل المثال لا الحصر بشأن دور حلف الناتو في دعم القدرات الأمنية للشركاء وهو أمر يحرص عليه الناتو منذ إطلاق شراكاته تجاه المنطقة.
وانطلاقاً مما سبق فإنه وبالرغم من دلالات اختيار الحلف للأردن لافتتاح ذلك المكتب فإنه يعتبر تطوراً مهماً في سياق علاقات حلف الناتو بدول الجنوب عموماً بالنظر إلى ما تم إعلانه بشأن أنشطة المركز وهي عقد المؤتمرات والدورات وبرامج التدريب في مجالات التحليل الاستراتيجي والتخطيط لحالات الطوارئ والدبلوماسية العامة والأمن السيبراني وإدارة تغير المناخ وإدارة الأزمات والدفاع المدني وهي مجالات ذات أولوية واهتمام من دول الجنوب بالنظر لارتباطها بالأزمات المزمنة التي تشهدها تلك المنطقة وترتب تحديات لكل من الحلفاء والشركاء معاً.
ولا يعد هو المكتب الأول من نوعه للحلف سواء لدول الجنوب أو المعني بها، ففي فبراير عام 2017 أعلن الحلف تأسيس مركز الجنوب والذي استهدف تنسيق المعلومات حول الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ويقع بمدينة نابولي الإيطالية، وفي يناير من العام ذاته افتتح الناتو المركز الإقليمي لحلف الناتو ومبادرة اسطنبول للتعاون في الكويت وقد حدد أهدافه في تقديم دورات تدريبية وورش عمل ومحاضرات حول أمن الطاقة والتخطيط الاستراتيجي والتخطيط لحالات الطوارئ المدنية وإدارة الأزمات، ولا شك أن المراكز الثلاثة سواء التي مقرها دول الجنوب أو دول الحلف يتكامل عملها في تحليل البيئة الأمنية التي يعمل فيها الحلف، بالإضافة لزيادة قدرات الشركاء من خلال الدورات المشار إليها.
وقد يتساءل البعض لماذا تأسس مثل تلك المراكز في حين أنه توجد بالفعل أطر أخرى للتعاون بين الحلف والشركاء من خلال برامج الشراكة والتعاون الفردي ضمن مبادرة اسطنبول وأيضاً انتظام انعقاد اجتماعات الحوار المتوسطي على المستوى الوزاري ومستويات أخرى؟ وتتمثل الإجابة على ذلك التساؤل ببساطة في استراتيجية حلف الناتو عموماً والآن على نحو خاص، فعموماً الحلف بدأ في تأسيس شراكات بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة للتكيف مع معطياتها وللتخلص من إرث النظرة التقليدية العربية للحلف في الماضي بأنه أداة الدول الغربية للتدخل العسكري في الأزمات، ومن جانب الدول العربية فإن الأمن غير العسكري والذي يقدمه الحلف من خلال تلك الدورات أصبح مثار اهتمام بل أولوية لدى تلك الدول وخاصة ما يرتبط منها بإدارة الأزمات والكوارث عموماً والأمن البحري على نحو خاص والتي لدول المنطقة حاجة ماسة إلى الاستعانة بخبرات الحلف فيها.
ومع التسليم بما سبق فإنه أيضاً لا يمكن الفصل بين قرار الحلف لتأسيس ذلك المركز والتنافس مع روسيا في تلك المنطقة، بالإضافة إلى رغبة الحلف تأكيده الالتزام بأمن الجنوب إلى الحد الذي تضمن تقرير الخبراء المشار إليه توصية بتعيين مبعوث خاص للحلف للجنوب على غرار قرارات اتخذتها الدول الكبرى والاتحاد الأوروبي في هذا الشأن من خلال تسمية مبعوث خاص لتلك المنطقة، وبرغم من أهمية تلك الخطوة فإن خبرتي بسياسات الحلف تتثمل في ثلاث نقاط أولها: أن الحلف يدرك تماماً أنه يواجه تحدي تغيير الصورة الذهنية بشأن سياساته خارج أراضيه وخاصة بعد تجربة أفغانستان ولكن يعمل على ذلك بشكل تدريجي حتى لا تأتي السياسات بنتائج عكسية، وثانيها: أنه بالرغم من أن أي تهديد في الجبهة الجنوبية يعني تهديداً للمصالح الحيوية للحلف وهو ما يفسر تدخل الحلف في ليبيا في 11 مارس 2011 من خلال «عملية الحامي الموحد» حيث كان أدت الاضطرابات في ليبيا آنذاك إلى ارتفاع أسعار النفط لتناهز 112 دولاراً للبرميل، فإن الحلف لا يتدخل في الأزمات خارج أراضيه سوى بشروط ومنها حتمية إجماع دوله الـ32 على التدخل ووجود قرار أممي يتضمن الإشارة لدور المنظمات الإقليمية، وثالثها: أن الحلف لا يرغب أن يكون هو القائد في الجهود الدولية لمواجهة التهديدات وإنما يعمل ضمن تحالفات ومنها دور الحلف تجاه مواجهة تهديدات القرصنة قبالة الصومال والقرن الإفريقي من خلال بعثة بحرية «درع المحيط» التي بدأت عملها عام 2008 وغادرت عام 2016 متجهة نحو البحر الأسود في مهمة جديدة.
ومع أهمية قرار الحلف بافتتاح ذلك المكتب والذي لن يكون الأخير حيث تضمنت تصريحات مسؤولي الحلف النية لافتتاح مركزين أخرين حول التغير المناخي وتأثير الصراعات على المرأة، فإن الجدل لم ينته حتى من جانب باحثي الحلف أنفسهم حول المفهوم الواسع للجنوب وأن دول الخليج العربي يجب أن تحظى بأولوية ضمن استراتيجيات الحلف، فضلاً عن دور الردع الذي يمكن أن يمارسه الحلف، والانخراط بشكل أكبر في مواجهة تهديدات الأمن الإقليمي الخليجي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك