يمثل القرآن الكريم أقدم وثيقة، وأصدق وثيقة أنزلها الله تعالى من عنده سبحانه، وهي وثيقة تجمع بين المعجزة الدالة على صدق الرسول المبلغ عن الله تعالى، وهي سجل تاريخي موثق، أما كونها معجزة، فذلك في قوله تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» (الإسراء/88).
وأما كونه سجلًا حافلًا بالأحداث، وقصص الأنبياء والرسل الكرام، وما وقع بينهم وبين أقوامهم من خلافات، يقول تعالى: «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين» (يوسف/3).
ومن أحداث التاريخ التي سجلها القرآن الكريم، وأنهى الخلاف حولها ما حدث في قصة أهل الكهف، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: «نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذًا شططا(14) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهةً لولا يأتون عليهم بسلطان بَيِّنْ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا(15)» الكهف.
إذًا، فنحن في حضرة سجل سطر فيه الحق سبحانه أنباء الأولين والآخرين، وما كان فيها وما سيكون، وهو سجل أو كتاب قال الحق فيه وعن أنبائه وأحداثه: «وأنه لكتاب عزيز (42) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزل من حكيم حميد (43)» (فصلت).
إذًا، فنحن أمام سجل محفوظ، وعزيز على أن تناله أيدي المحرفين، وتشكيك المدلسين، تولى الله تعالى حفظه وصيانته من عبث العابثين وأكاذيب المرجفين، قال تعالى: «إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر/9).
نخلص من هذا إلى أننا أمام وثيقة محصنة غاية التحصين لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولهذا وصفها الحق سبحانه بأنها أحسن القصص، قال تعالى: «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين» (يوسف).
ولهذا، فنحن الآن أمام عمل جليل يقدمه نبي الله عيسى (عليه السلام) يعترف فيه بموقفه من العقيدة، وما اتهموه به من تهم باطلة ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.. في يوم الحساب يسأل الله تعالى رسله وأنبياءه: هل بلغوا أقوامهم بما أمرهم به من الإيمان والعمل الصالح؟ ورغم علم الله تعالى بأنهم قد فعلوا ذلك لكن الحق سبحانه لا يحكم بعلمه، بل بالدليل والبرهان، ورغم أنه إله لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون إلا أنه عامل نفسه بما يعامل عباده.. إنه العدل المطلق، والحكم العدل، ولذلك تكرر في القرآن قوله سبحانه في جداله مع خلقه: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» (البقرة/111).
وقف نبي الله عيسى (عليه الصلاة والسلام) يعترف بكذب ما اتهموه به ليبرئ ساحته، وليؤكد لأتباعه ومن لفقوا له التهم، وادعوا فيه دعاوى باطلة، ومن هذه الدعاوى الكاذبة الملفقة ما قصه القرآن عنهم من أنه أمرهم بأن يتخذوا منه ومن أمه البتول العذراء إلهين من دون الله -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- إنها تهمة باطلة كأعظم ما يكون البطلان، حاشاه أن يرتكب هذا الإثم العظيم، قال تعالى: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأميَ إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت عَلَّام الغيوب(116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد(117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118)» (المائدة).
إن الحق والصدق في اعترافات نبي الله عيسى عليه السلام ليصدران عن مشكاة واحدة، وما يؤيد ذلك ويؤكده شهادته لأمه البتول حين اتهموها في عرضها، ولَم يقيموا وزنا لشهادة طفل رضيع في المهد حكموا هم بأنفسهم على استحالة أن ينطق وهو في المهد: «فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا» (مريم/29) وثبتت براءة العذراء البتول بشهادة طفل رضيع في المهد أنطقه الله تعالى ليقول الحق ويبرئ ساحة والدته من التهمة التي نسبوها إليها.
إن البشرية لحري بها أن تحفظ هذا السجل الخالد، وهذه المعجزة الوحيدة الباقية من معجزات الأنبياء والمرسلين لأنه الكتاب الوحيد الذي قص علينا أنباء وأخبار الأمم السالفة مع أنبيائهم، وقصص حضارات سادت، ثم بادت ولَم يبق منها إلا صفحات أو شذرات تحكي ان أزمان غابرة ً وآثار نحاول قدر المستطاع أن نحافظ عليها، ونستنطقها لتفصح إلينا بشيء من أسرارها الدفينة، لا نقول هذا تخرصًا، بل نقول الحق، لأن الحق سبحانه وتعالى أنطقه، ووثقه وسجله في كتاب حفظه لنا، وأيده بالخوارق والمعجزات، وذلك حين تحقق على يد عيسى ابن مريم إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وها هو يعترف ببراءة أمه العذراء البتول، وينطق بالحق في عمر يستحيل فيه الكلام، وقد حكم أتباعه باستحالة ذلك، يقول تعالى: «فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريا(27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا(28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا(29) قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا(30) وجعلني مباركًا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا(31) وبرا بوالدتي ولَم يجعلني جبارًا شقيا(32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا(33)» سورة مريم.
لقد صَدَّقَ الله تعالى. على اعترافات نبيه عيسى (عليه السلام)، وشهد له أنه قال الصدق، وكما سبق أن قلنا إن الله تعالى لا يقضي بعلمه ولكنه يحكم بالدليل والبرهان، ها هو الحق ينزل عن منصة القضاء ليدلي بالشهادة لصالح نبيه عيسى (عليه السلام)، ثم يعود الحق سبحانه إلى منصة القضاء ليفصل في القضية التي أُتُهِمَ فيها عيسى عليه السلام.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك