تعتمد آليات السياسة الأمريكية على ممارسة الضغوط، فهي عنصر راسخ في هيكلها، وتتمثل تلك الضغوط في الأنشطة المدفوعة الأجر، التي تقوم بها (الشركات المتعددة الجنسيات، وجماعات المصالح الخاصة، وجماعات الحقوق، والمنظمات الدينية، والأفراد)؛ حيث تقدم تلك الهيئات المختلفة تعاقدات بمليارات الدولارات موجهة نحو الساسة على جميع مستويات التسلسل الهرمي السياسي في البلاد، بما في ذلك مجلسا النواب والشيوخ بالكونجرس الأمريكي.
ولا يقتصر هذا النوع من الضغط على الجهات الفاعلة المحلية، فتبلغ قيمة نطاق الضغط الأجنبي المتمركز في واشنطن تحديدًا مئات الملايين من الدولارات كل عام. ووفقًا لمنظمة أوبن سكريتس غير الربحية، التي تتابع تمويل الحملات الانتخابية وممارسة الضغط في السياسة الأمريكية؛ أنفقت جماعات الضغط أكثر من 4,2 مليارات دولار للتأثير على عملية صنع القرار، وتصويت المشرعين الفيدراليين في عام 2023.
وكتب فريمان مدير برنامج ديمقراطية السياسة الخارجية بـمعهد كوينسي، ونيك كليفلاند ستاوت باحث زميل في ذات المعهد، عن وجود شبكة معقدة من النفوذ الأجنبي في الولايات المتحدة؛ حيث تجني الحكومات وممثلوها في جميع أنحاء العالم فوائد حملات التأثير السياسي الضخمة، وأن عمليات التأثير التي يتم تنفيذها داخل النظام السياسي للولايات المتحدة تستخدم الشركات الموجودة في واشنطن للضغط على الأعضاء النشطاء في الكونجرس لتحقيق أهداف متباينة؛ سواء كان ذلك دعمًا عسكريًا، أو تحيزًا من الدبلوماسية الأمريكية في النزاعات الإقليمية، أو المساعدات الاقتصادية، أو غسل السمعة بشكل عام.
ومن بين جميع جماعات الضغط الأجنبية التي تنشط في العاصمة الأمريكية، فإن أكثر جماعات الضغط شهرة وتأثيراً هي تلك التي يمارسها اللوبي المؤيد لإسرائيل، بقيادة لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، والتي كانت تؤثر -ولعقود من الزمن- في مواقف السياسيين الأمريكيين بشأن سياستها اتجاه الشرق الأوسط عبر قاعدتها العريضة من المانحين الأثرياء، والتعاون الوثيق مع الحكومة الإسرائيلية.
فسجل جون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو ومؤلف كتاب اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية لعام 2007، كيف أن جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023، تذهب إلى بذل جهود كبيرة لتأديب ومعاقبة كل من تسول له نفسه انتقاد إسرائيل، وأكبر دليل على ذلك ، إنفاق هذه المجموعات ما يربو على 100 مليون دولار؛ لمحاولة إقصاء الأصوات المنتقدة لإسرائيل والمتعاطفة مع الفلسطينيين من المؤسسات البرلمانية في الولايات المتحدة، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأمريكية لعام 2024.
وكما قال ميرشايمر، إن إسرائيل تعتقد، أنه بمقدورها فعل أي شيء تقريبًا وأنها سوف تحصل على الدعم من الولايات المتحدة، ويرجع ذلك -في جزء كبير منه- إلى النفوذ الطاغي الذي يتمتع به اللوبي المؤيد لإسرائيل داخل مجلسي النواب والشيوخ، لكل من الأعضاء الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.
بينما وصف كريس ماكجريل مراسل صحيفة الغارديان لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك)، بأنها قوة مؤثرة في سياسة واشنطن، فيما اعترفت كيت كيلي وكينيث بي فوجل في صحيفة نيويورك تايمز أن إسرائيل تشتهر باستخدامها تكتيكات سياسية عدوانية لإسكات أي انتقادات تطولها. فقد سجلت أوبن سكريتس كيف بلغ إجمالي الضغط الأجنبي لصالح إسرائيل، منذ عام 2016، أكثر من 186 مليون دولار. وفي عام 2023، تجاوز الإنفاق الحكومي المسجل حوالي 3,73 ملايين دولار، ومبلغ 17,44 مليون دولار عبر التمويل المقدم من المنظمات والمجموعات غير الحكومية.
وتتبع ماكجريل جذور هذه اللجنة العائدة إلى اللجنة الأمريكية الصهيونية للشؤون العامة التي تم تدشينها لصالح الحكومة الإسرائيلية في محاولة لإدارة التداعيات السياسية لمذبحة المدنيين الفلسطينيين التي وقعت في قرية قبية بالضفة الغربية في 1953. وأضاف ماكجريل أن دعمها المالي ارتفع بعد حرب أكتوبر عام 1973، مع استمرار تنامي نفوذها على السياسيين الأمريكيين دون منازع لعقود؛ حيث عملت على تهميش منتقدي إسرائيل في الكونجرس تحت زعم دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي لإسرائيل.
وبالتالي، ووفقًا لاستطلاع مؤسسة غالوب فقد أعرب 48% من البالغين الأمريكيين عن عدم موافقتهم على الحرب الإسرائيلية في غزة، بينما 23% فقط من الديمقراطيين المسجلين يوافقون على استمرار الحرب. رغم ذلك، ذكرت صحيفة الغارديان كيف أن 82% من أعضاء الكونجرس الأمريكي من كلا الحزبين ما زالوا على دعمهم لإسرائيل في بياناتهم وسجلات التصويت، حيث وجد 9% فقط أنهم أكثر تأييدًا لمحنة الفلسطينيين.
ويعتبر قانون تسجيل الوكلاء الأجانب الأمريكي (قانون فارا) مع الإصلاحات التي أدخلت عليه في أوائل عام 2024، كمفتاح وحل لتلك الأوضاع السياسية، حيث يُطلب من أولئك الذين يتقاضون الأموال للضغط على الحكومة والمشرعين نيابة عن الحكومات الأجنبية، والشركات، والمنظمات، والأفراد، التسجيل بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب. وبذلك وكما قال بن فريمان ونيك كليفلاند ستاوت أصبح الوصول إلى جميع الأنشطة السياسية للمسجلين الأجانب، ومساهمات الحملات الانتخابية متاحًا الآن بسهولة أكبر للتدقيق والعرض العام.
فتكشف البيانات الجديدة، كيف قدم المسجلون الأجانب في عامي 2022 و2023، ما مجموعه 14,3 مليون دولار من المساهمات السياسية للمرشحين والمنظمات كجزء من حوالي 130 ألف عمل سياسي مسجل. ووفقًا لـ«أوبن سكرتس»، أُنفق أكثر من 5,3 مليارات دولار منذ عام 2016. ومن هذا المجموع، تم تعقب أكثر من 400 مليون دولار من الصين، وأكثر من 365 مليون دولار من اليابان، وأكثر من 300 مليون دولار من كوريا الجنوبية.
ولكن كشف فريمان وكليفلاند ستاوت عن وجود ثغرة في قانون تسجيل الوكلاء الأجانب وهي أن القانون يعفي المجموعات التي يتم تمويل عملياتها من قبل مواطنين أمريكيين من التسجيل كمجموعة مصالح أجنبية؛ مما يعني عدم حاجة أيباك إلى التسجيل. وفي صدد ذلك اعترفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية كيف أضحت أيباك فعليًا جناحًا تنفيذيًا لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة؛ حيث إنها تروج لصورة كاذبة لإسرائيل الليبرالية بالولايات المتحدة وتبيع الأوهام لأعضاء الكونجرس. مما يدلل على مدى نفاذها داخل واشنطن. وأفادت كيلي وفوغل كيف جمعت المجموعة في شهر مارس 1600 من المانحين والمشرعين، بما في ذلك مايك جونسون رئيس مجلس النواب وتشاك شومر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ؛ من أجل حشد الدعم لإسرائيل واستمرار الحرب في غزة، فضلًا عن إظهارها القوة لمعارضيها. ولم يخاطب نتنياهو هذه اللجنة عبر رابط فيديو فحسب، بل حضر أيضًا بريت ماكغور كمنسق للبيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، وتحدث عن التزام حكومته بمصالح إسرائيل.
إن الوسائل المالية المتاحة للجنة الشؤون العامة الإسرائيلية وغيرها من الجماعات المؤيدة لإسرائيل، والتي تتجاوز بكثير تلك التي تمتلكها الأصوات الناقدة أو المدافعون المؤيدون للفلسطينيين؛ كان لها أثر لا يمكن إنكاره على قرارات السياسة الخارجية الأمريكية. وكشف التحليل الذي أجرته صحيفة الجارديان أن أعضاء الكونجرس الأمريكي، الذين هم الأكثر دعمًا لحرب إسرائيل ضد غزة، تلقوا في المتوسط 100,000 دولار من المانحين الماليين والسياسيين المؤيدين لإسرائيل خلال حملاتهم الانتخابية الأخيرة مقارنة بما حصل عليه المرشحون المؤيدون للفلسطينيين من داعميهم.
ومن بين أبرز هؤلاء الأعضاء الديمقراطيين المؤيدين لإسرائيل في الكونجرس، جلين آيفي، وهيلي ستيفنز، وشونتل براون، الذين حصل كل منهم على التوالي 7,2 ملايين دولار، و5,4 ملايين دولار، و4,5 ملايين دولار من مساهمات الحملة الانتخابية من مانحين مؤيدين لإسرائيل لتأمين مقاعدهم في واشنطن. وفي ضوء هذه الأرقام المذهلة، تناول ميرشايمر الكيفية التي يخلف بها هذا التأثير المالي الصارخ آثارًا عميقة على السياسة الأمريكية. وأضاف فريمان وكليفلاند ستاوت أن مثل هذه العمليات المثيرة للقلق تثير بوضوح استفهامًا عما إذا كان السياسيون يولون أولوية حقًا لمصالح ناخبيهم بمنأى عن مكاسبهم السياسية والمالية.
وتحدث مارك بوكان النائب الديمقراطي عن ولاية ويسكونسن، عن عدد من زملائه الذين تعرضوا للضغوط في قراراتهم التصويتية بسبب الضغوط التي تمارسها لجنة أيباك. كما كتب الرئيس باراك أوباما -سابقًا- عن كيفية المخاطر التي يواجهها منتقدو سياسة الحكومة الإسرائيلية؛ حيث يوصمون كمعادين لإسرائيل وللسامية، ومواجهتهم لمعارض ممول جيدًا في الانتخابات المقبلة.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية الحالية في الشرق الأوسط، رأى ميرشايمر أنه إذا لم يكن هناك لوبي يدفع الكونجرس في اتجاه معين وبطريقة قوية حقًا؛ فإن موقف واشنطن تجاه الحرب في غزة سيكون مختلفًا جذريًا. ومن جانبه، قيم ستيفن إم. والت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، أن انتهاكات إسرائيل المتكررة للقانون الدولي خلال العقود العديدة الماضية، مثل التوسع الاستيطاني غير القانوني في الأراضي المحتلة؛ لم يكن بالإمكان ببساطة تحقيقها دون تأثير اللوبي الموالي الإسرائيلي في واشنطن. وفي إشارة إلى الحرب الحالية في غزة، أعرب ميرشايمر عن أسفه لأنه، لو عمل هذا اللوبي مع أي إدارة للسماح للرؤساء بالضغط على إسرائيل للتوصل إلى اتفاق يؤدي إلى دولة فلسطينية؛ فمن المحتمل ألا نكون في هذا الوضع الكارثي.
وتشهد السياسات الأمريكية الآن ضغوطات جديد قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2024، والتي شملت أيضًا منافسات على مقاعد في مجلسي النواب والشيوخ، والمجالس النيابية المحلية بجميع أنحاء أمريكا؛ حيث تصاعدت بشكل ملحوظ جهود جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، وجامعي التبرعات لإسكات الأصوات الناقدة. وأفاد ماكجريل كيف تخطط العديد من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل -بما في ذلك لجنة أيباك- لإنفاق عشرات الملايين من الدولارات ضد مرشحي الكونغرس، وفي مقدمتهم الديمقراطيين، الذين تعتبرهم على حد وصفها غير كافيين في دعمهم لإسرائيل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك