تفتخر الدول كثيرا وتتباهى أمام الناس بارتفاع أعداد الزوار من السياح لبلدانهم كل سنة، وكلما زاد العدد اعتبروا ذلك فخراً وإنجازاً تنمويا، وازدهاراً اقتصادياً يصب بالخير الوفير والكبير في ميزانية الدولة.
فقد زار مدينة برشلونة الإسبانية الساحلية العريقة، على سبيل المثال، أكثر من 12 مليون سائح عام 2023، وفي إسبانيا كلها وصل عدد السياح إلى 85 مليونا في عام 2023، وبزيادة قدرها 18,7% عن عام 2022، بحسب إحصائيات «المعهد القومي للإحصاء».
فمثل هذه الإحصائيات العالية لعدد السياح في برشلونة خاصة، وفي إسبانيا عامة، من المفروض أن تكون مصدر فخرٍ وسرور، ومدعاة للاعتزاز بهذا الإنجاز السياحي والاقتصادي الكبيرين، ولكن ما يحدث في مدينة برشلونة اليوم، وفي بعض المدن الاسبانية الساحلية والجزر الأخرى، يشير إلى أن هذه الاحصائيات تُعتبر سلبية وخطيرة تهدد السكان والمقيمين في هذه المدن، فالسكان يعتبرنها مؤشراً على شقائهم وعدم سعادتهم، وينددون بهذا المد السياحي المفرط الذي ينمو ويتوسع كل عام.
فسكان برشلونة الآن يحتجون على هذا النمو المطرد في عدد السياح، فخرجوا من منازلهم وأعمالهم يتظاهرون في الشوارع ويرفعون أصواتهم، ويبدون سخطهم وغضبهم للأعداد المتزايدة من السياح في مدنهم والتي غطت كل شوارعهم فاكتظت بهم، وملأت فنادقهم ومطاعمهم فلا محل للسكان لهم، فأصبحوا أجانب في مدنهم ولا يستطيعون ممارسة حياتهم اليومية في راحة، وسعادة، وطمأنينة في ظل الإحساس بهذا الضغط السياحي الجماهيري العظيم. ومنها المظاهرات العارمة الواسعة التي خرجت في السادس من يوليو في مدينة برشلونة، ورفعوا فيها شعارات قوية مناهضة للسياح، وتدعو إلى طردهم من مدينتهم. ومن هذه الشعارات: «كفى، دَعُونا نضع حداً للسياحة»، ومنها لافتات تقول: «خففوا من السياحة».
فلماذا إذن هذه العدائية العلنية للسياحة في مدينة برشلونة خاصة، ومدن ساحلية أخرى بشكلٍ عام؟
في تقديري، أن هذا القلق العميق من السياحة، ليس للسياحة العادية البسيطة الموجودة في الكثير من مدن العالم، ولكن السياحة في برشلونة تعدت هذه المرحلة المقبولة، فأصبح هناك إفراط وتفريط مشهود في عدد السياح وممارساتهم أثناء وجودهم في المدينة. كما أنها تحولت من الحالة العادية المقبولة التي يمكن تحملها والتعايش معها إلى حالة ومرحلة التشبع في عدد السياح والضغط الشديد على مرافق المدينة. كما أن اليوم تحولت إلى مرحلة ما فوق التشبع، وهي المرحلة التي تتحول فيها السياحة من خير للشعب إلى شر ونقمة، وتتحول فيها السياحة من أداة بناء وتنمية إلى أداة هدم ومفسدة للمجتمع والبيئة برمتها، وخاصة إذا لم تقم المدينة بمواكبة هذا المد السياحي، ولم تَلحقْ خدماتها العامة بهذه الأعداد المتزايدة سنوياً من السياح. ولذلك قال أحد المتظاهرين الذين أضربوا عن الطعام: «ليست لدي أي مشكلة مع السياحة، ولكن في برشلونة نحن نعاني من السياحة المفرطة والمتزايدة، ما جعل الحياة في المدينة لا تطاق».
فعلينا إذن أن نعلم أن كل سائح يطأ أرض أي مدينة سياحية، فإن وجوده يشكل ضغطاً إضافياً على الثروة المائية ومياه الشرب بصفةٍ خاصة، وأن كل سائح يمثل ضغطاً على شوارع المدينة ومواقف السيارات، كذلك فإن وجود كل سائح يؤدي إلى زيادة إنتاج المخلفات الصلبة، أو القمامة، إضافة الى ارتفاع في إنتاج مياه المجاري، كما أن كل سائح إضافي يأتي إلى المدن والجزر السياحية فإنه يشكل عبئاً على شبكات الكهرباء، ويمثل ضغطاً جديداً متعاظماً على الخدمات السكانية من شقق ومنازل وغرف فندقية، وإضافة على الخدمات الصحية والملاعب والمتنزهات العامة الساحلية وغير الساحلية والمحميات الطبيعية ومواقف السيارات.
وكلما ارتفعت وتيرة المد السياحي، فإن الضغط والعبء يزيدان على الخدمات والمرافق العامة حتى يبدأ بالانفجار الانشطاري التدريجي والبطيء، أي انفجار صغير ومحدود، ثم انفجار آخر أوسع تأثيراً، ثم انفجار كبير يهز الركن الأمني لهذه المدن.
وهذا ما حدث في برشلونة، فالخدمات أصبحت مرهقة ومتعبة وبالية ولا تستطيع مواكبة وتحمل الزيادة المستمرة في الأعداد البشرية الهائلة من السياح، فكلفة خدمات الإسكان ارتفعت كثيراً حتى بلغت أكثر من 68% خلال العقد الماضي، وأسعار الإيجارات زادت بدرجة مفرطة لا يتحملها سكان المدينة، وأثرت على التجارة المحلية في أحياء المدينة، فأغلقت الكثير من المتاجر والبرادات الصغيرة التي كانت تخدم مباشرة السكان وتقدم لهم ما يحتاجون إليه، فاستبدلت بمتاجر تخدم السياح مباشرة. كذلك فإن الأسعار ارتفعت بشكل كبير لا يطيقه السكان، فأصبحت الحياة والمعيشة غالية في المدينة ولا يمكن تحملها، حتى أن المدينة ضاقت بسكانها الأصليين، وتحولت حياتهم من سعادة وراحة وطمأنينة إلى شقاء وبلاء.
فكان حل سكان المدينة لهذه الظاهرة العقيمة هو الخروج أمام الناس وأمام المسؤولين في المدينة لإظهار سخطهم على الأوضاع التي يعيشونهم، ولفت نظر المعنيين إلى الحالة المزرية التي يعانون منها، ولذلك طالبوا بإحداث نوعٍ من التوازن بين التنمية السياحية المتمثلة في خفض وتقنين عدد السياح سنوياً من جهة، واحتياجات السكان إلى الحياة الكريمة والمعيشة المناسبة، إضافة الى تقليل استضافة الفعاليات والأنشطة الإقليمية والدولية وتوسعة وتجديد وتحديث الخدمات والمرافق العامة للمدينة لامتصاص هذا الضغط السياحي المتنامي من جهة أخرى.
وبالتالي دعا المتظاهرون إلى تغيير النموذج السياحي القديم المعتمد فقط على زيادة عدد السياح بأي وسيلة ومن دون الأخذ في الاعتبار الجوانب الأخرى المرتبطة بهذه الزيادة والمصاحبة لها، والعمل على استبداله بنموذج حديث مستدام يأخذ في الاعتبار الجانب الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الجانبين الاجتماعي والبيئي، إضافة إلى التصدي للحالة الراهنة للسكان ومعالجة مشاكلهم وحل معاناتهم اليومية.
فهذه الحالة الموجودة أمامنا في برشلونة هي في الحقيقة ظاهرة حديثة، وواقع مر يعاني منه الكثير في مدن ودول العالم الصغيرة المساحة والمحدودة الموارد، وتؤكد علينا ضرورة عدم التركيز كلياً على الجانب الاقتصادي البحت فقط في كافة البرامج والأنشطة السياحية وغير السياحية، وعدم تجاهل الجوانب الأخرى ذات العلاقة مثل الجانب الاجتماعي والبيئي، فلا توجد أي دولة بمنأى عن السقوط في هذه الحالة العقيمة والمعقدة التي تهدد أمن واستقرار الدولة برمتها.
ismail.almadany
@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك