لا تزال أزمة غزة مستمرة على نحو دامٍ ومدمر منذ أكثر من تسعة أشهر، وبُذلت جهود مكثفة بهدف التوصل إلى اتفاق يتم تنفيذه على ثلاث مراحل لوقف إطلاق النار المستمر، والتبادل التدريجي للرهائن والسجناء، وتقديم المساعدات الإنسانية بوفرة وإعادة إعمار قطاع غزة.
لقد اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 2735، والذي لا يُعد مثاليا، بسبب استخدامه المتكرر لعبارات غير حاسمة ومفتوحة للتفسيرات والتأويلات المختلفة، ولغياب الروابط القوية بين مراحله الثلاث. أضف إلى ذلك أن القرار لا يتضمن أي مساءلة عن الدمار الذي وقع أو عن الفشل اللاحق في الوفاء بالالتزامات التي ينص عليها، ومن ثم يثير هذا الأمر القلق، وخاصةً أن الممثل الدائم للولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة - خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن الدولي متعلقة بغزة (والتي امتنعت واشنطن عن التصويت فيها) - قد أكد بشكل غريب أن القرار غير ملزم.
هناك شكوك كثيرة في أن أي خطوات يُتفق عليها بموجب اقتراح السلام المُقدم هذا، سيتم تنفيذها بأمانة. وأنا من بين المتشككين وأشاطرهم الكثير من مخاوفهم. لقد أكدت في كتاباتي سابقا أن حل الأزمة الحالية في غزة مرتبط بمعالجة القضية الأساسية المتمثلة في الاحتلال الإسرائيلي، وأن هذا هو السبيل الوحيد لإنهاء دائرة العنف.
ولكن على الرغم من ذلك، أعتقد أن قرار مجلس الأمن رقم 2735 يمكن أن يكون مفيداً، إذا ما تم استكماله وتنفيذه. وما أجده مهما في المرحلتين الأولى والثانية لتنفيذ القرار هو الدعوات إلى «الوقف الفوري والتام لإطلاق النار»، فضلا عن «الوقف الكامل للأعمال العدائية»، و«الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية»، وهو ما تمت الدعوة إليه بالفعل وإن كان من خلال عبارات غير حاسمة، مثل «باتفاق من الطرفين».
من الأمور المهمة أيضا، والتي غالبا ما يتم تجاهلها، أن القرار ذاته الذي أقره مجلس الأمن في 10 يونيو الماضي، يؤكد رفض المجلس التام لأي محاولات لإحداث تغييرات ديموغرافية أو إقليمية في قطاع غزة، بما في ذلك أي إجراءات تُقلص مساحة أراضي القطاع. وتشكل هذه التأكيدات الديموغرافية والإقليمية أهمية بالغة، وخاصةً في ضوء قيام إسرائيل بشكل غير مشروع بإنشاء مناطق أمنية داخل محيط غزة، والسيطرة على محور فيلادلفيا، وإنشاء ممرات أمنية تقسم وتمزق أراضي القطاع.
علاوة على ذلك، فإن الالتزام الذي كرر مجلس الأمن تأكيده من خلال القرار المشار إليه، له أهمية كبيرة، إذ أكد المجلس رؤيته الخاصة بحل الدولتين، الذي تعيش بموجبه دولتان ديمقراطيتان (إسرائيل وفلسطين) جنبا إلى جنب في سلام وضمن حدود آمنة ومُعترف بها.
يتعين على المجتمع الدولي والعالم العربي أن يتذكروا ويدركوا جيدا أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية استمر كوضع قائم ممتد لما يقرب من ثمانية عقود من الزمن، وبصفة خاصة منذ عام 1967. وغالبا ما تتطور الأوضاع القائمة وغير الخاضعة للرقابة إلى حقائق بحكم الأمر الواقع. ولطالما كانت هذه تجربة مؤلمة في الشرق الأوسط. وهكذا فإنه على الرغم من وجود مخاوف عسكرية وإنسانية مُلحة وبالغة الأهمية في قطاع غزة، فإنه من الأهمية بمكان ضمان عدم تحول الأزمة هناك إلى وضع قائم دائم آخر بحكم الأمر الواقع، سواء أكان عنيفا أم غيره.
وأشعر بقلق بالغ من أننا نسير في اتجاه خطر للغاية، إذ تقوم إسرائيل بالاستحواذ على الأراضي بالقوة والفصل بوضوح بين قطاع غزة والضفة الغربية، واللذين طالما كانا يشكلان معا الدولة الفلسطينية، ومن الممكن أن يصبح هذا الوضع هو الوضع القائم الجديد، وربما واقعا ممتدا، حتى لو تم التوصل إلى اتفاق بين حماس وإسرائيل.
إن المشهد السياسي بين الإسرائيليين والفلسطينيين لا يبشر بالقدرة على اتخاذ قرارات جوهرية، خاصةً فيما يتعلق بالحرب والسلام. وتشكل الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستجرى في نوفمبر 2024، عاملا مقيدا آخر في عملية صُنع القرار الاستراتيجي الحاسم، مما يزيد من تشويه المنظور المتحيز بالفعل. وسوف يكون للقرارات غير المسؤولة عواقب طويلة المدى علينا جميعا.
يجب ألا نسمح للأحداث أو الظروف أيًّا كانت، بتحويل انتباهنا عن القضايا الأساسية. وفي الوقت نفسه، يجب ألا نتجاهل الواقع الفعلي غير الشرعي، حتى لو بدى سلميا.
وحتى إذا وافقت حماس أو إسرائيل على خطة السلام ذات المراحل الثلاث (مع بعض التعديلات المُحتملة من أجل جعل الخطة أكثر وضوحاً)، فيتعين على المجتمع الدولي أن يراقب عن كثب ويصر بلا تردد على «عدم قبول أي تغييرات ديموغرافية أو إقليمية في غزة»، بالإضافة إلى ذلك، يجب على المجتمع الدولي أيضا أن يستمر في التأكيد أن «الهدف هو حل الدولتين: إسرائيل وفلسطين». إن الحفاظ على تركيز واضح وإشراف نشط على هذه النقاط الثلاث أمر بالغ الأهمية لمنع تطور الوضع الراهن إلى واقع غير شرعي.
من المهم بالنسبة إلى إسرائيل وحماس أن تلتزما علنا ليس فقط بحل الدولتين، بل أيضا بالامتناع عن إجراء أي تغييرات ديموغرافية أو إقليمية في غزة.
ويجب على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلى جانب هيئات ووكالات الأمم المتحدة مثل: المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومنظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأغذية العالمي، ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والممثلين المختصين الذين يعينهم الأمين العام، التعامل مع هذه القضايا وتقديم تقارير منتظمة وشفافة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن والكيانات الأخرى ذات الصلة. ومن الضروري أن تكون هذه التقارير جزءا لا يتجزأ من عملية المراجعة لتنفيذ القرار.
رحبت حركة حماس بقرار مجلس الأمن رقم 2735، ووافقت ضمنا على نقاطه الثلاث الأساسية، ولكن المزيد من الوضوح والتفصيل بشأن التزامها بنقاط القرار سيكون مفيدا. أما على الجانب الآخر، فقد التزمت إسرائيل الصمت بشأن قرار مجلس الأمن، وهو ما رفع مستوى الغموض بشأن نياتها، ومن ثم فإن إعلان تل أبيب التزامها الواضح الذي لا لبس فيه بجميع نقاط قرار مجلس الأمن المشار إليه هو أمر بالغ الأهمية.
الجدير بالذكر أنه عند توقيع اتفاقيات أوسلو، اعترف ياسر عرفات، بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، بدولة إسرائيل. لذلك لا توجد خطوات إضافية مطلوبة من محمود عباس «أبومازن». وردت إسرائيل بالمثل بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين، ومن ثم فإن المزيد من التأكيدات ضرورية. إن المعارضة الشديدة التي تبديها الحكومة الإسرائيلية الحالية لحل الدولتين، لا ينبغي أن تمنع مجلس الأمن، بما في ذلك الولايات المتحدة، من التمسك بدعم هذه القضية الأساسية.
ومن الأهمية بمكان أن نتعلم من دروس التاريخ المؤلمة، إذ إن إخضاع الشعوب واحتلالها يُولد غضبا وانعداما للأمن لا تستطيع أي ترسانة أسلحة إيقافه. كما أن القوة غير المتكافئة وعدم المساواة في الحقوق من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الصراعات بين الشعوب، والتي ستمتد إلى ما هو أبعد من نطاق المقاتلين أو قوات الأمن، وستهدد المدنيين والاستقرار المجتمعي.
علاوة على ذلك، فإن التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين، وكذلك الإجراءات التي يتخذونها على الأرض، تتعارض مع رؤية حل الدولتين، بل تتحداها، لأنها تمثل تغييرات إقليمية وديموغرافية غير مشروعة ومحظورة من قِبل مجلس الأمن. وهكذا لا يمكن ولا ينبغي التغاضي عن مثل هذه التصرفات. إن قرار مجلس الأمن رقم 2735 ليس عبارة عن قائمة من التدابير المستقلة التي يمكن الاختيار من بينها، بل إنه كلُ شامل يجب اعتماده في مجمله وتنفيذه بأمانة. وهذا يشمل أي تغيير في قطاع غزة والأهداف العامة للسلام الفلسطيني الإسرائيلي.
وأخيرا، آمل أن نكون قد تعلمنا جميعا من دروس التاريخ المؤلمة، وأن نمتنع عن السماح للوضع الراهن بأن يُملي علينا مسارات محفوفة بالمخاطر لمستقبلنا.
{ وزير الخارجية المصري الأسبق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك