هل سيحدث قريبًا؟ هذا السؤال الذي طرحه «فاتح بيرول» المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، في أواخر عام 2023، على سوق الطاقة العالمية، ليوضح من خلاله أن الأمر ليس مسألة «هل» استُبدلت الهيدروكربونات، كالنفط الخام، والغاز الطبيعي، على نطاق واسع وعالمي، بالبدائل المتجددة مثل: الطاقة الشمسية، وتوليد الرياح، ولكن الأمر هو متى يمكن حدوث ذلك؟ ليأتي هذا التساؤل داعمًا لتقرير نمو إنتاج الطاقة المتجددة حول العالم؛ حيث شهد عام 2023 زيادة 50% أي قرابة 510 جيجاوات، وهو الأسرع منذ أكثر من عقدين.
وقد اسهمت دول مجلس التعاون الخليجي في هذا التقدم بمكانتها العالمية كمنتجة ومصدرة للنفط الخام والغاز الطبيعي، ومروجة أيضًا لأنواع الوقود الأخضر، من خلال بناء مخططات قائمة على عمل متوازن يشمل التخطيط الاقتصادي والاستراتيجي طويل المدى .فتحت رعاية «معهد دول الخليج العربية في واشنطن» أقيمت مناقشات «مؤتمر الدبلوماسية البترولية 2024» بعنوان «العد التنازلي لتحقيق صافي انبعاثات صفرية» التي تحدثت عنها «كيت دوريان» زميلة غير مقيمة لدى المعهد، قائلة: إنه مع استمرار دول الخليج في تعزيز «إمكاناتها في مجال الطاقة الخضراء»، فإن متطلبات التحول العالمي المتسارع للطاقة تلتزم منهم تكثيف إعطاء الأولوية «لسياسات إزالة الكربون من صناعة النفط والغاز».
وتحدث «روجر ديوان» نائب رئيس الأبحاث والتحليل في ستاندرد اند بورز جلوبال كوميدتي انسايتس عن احتياج دول مجلس التعاون إلى إزالة الكربون بسرعة؛ بغية الاستمرار في الحصول على «حافز» سياسي واقتصادي لـ«العمل في المرحلة الانتقالية».
كما أكدت «دوريان» أن تحول الطاقة العالمية نحو مصادر الطاقة المتجددة هو أمر أكده علماء المناخ باعتباره ضرورة لتجنب كارثة بيئية دولية ناجمة مباشرة عن ارتفاع درجات الحرارة، التي تتأثر بشدة بمستويات التلوث بثاني أكسيد الكربون الصناعي؛ لذا فإن «التحدي الرئيسي» بالنسبة إلى منتجي النفط مثل دول الخليج العربي هو «اتساع الفجوة بشأن توقعات الطلب».
ورأت وكالة الطاقة الدولية بشأن توقعات الطاقة العالمية في عام 2023، كيف ستؤدي «التحولات الكبرى الجارية اليوم»؛ إلى «مشهد طاقة عالمي متغير إلى حد كبير بحلول نهاية العقد الجاري». ذلك وعلى الرغم من تسجيل «معهد الطاقة» ومقره لندن، في أحدث مراجعاته الإحصائية للطاقة العالمية، الصادرة في يونيو 2024، عن «انتعاش بالغ» بمستويات استهلاك النفط العالمية في 2023 عقب الانكماش الطويل الذي أعقب وباء «كوفيد-19»، وهو ما يتضح من تجاوز استهلاك النفط الخام حاجز 100 مليون برميل يوميًا.
وتقدر الوكالة التي تتخذ من باريس مقرًا لها أنه بحلول 2030 سيتزايد عدد السيارات الكهربائية على الطرق 10 أضعاف، وسينتج توليد الطاقة الشمسية كهرباء أكثر مما ينتجه نظام الطاقة الأمريكي بأكمله حاليًا، وسيذهب ثلاثة أضعاف الاستثمارات إلى مشاريع طاقة الرياح البحرية بدلاً من إنشاء محطات جديدة تعمل بالفحم والغاز. وفي هذا السياق توقعت وكالة الطاقة الدولية أيضًا وصول انبعاثات الكربون العالمية المرتبطة بالطاقة إلى ذروتها في 2025 قبل أن تتراجع، وانخفاض حصة الوقود الأحفوري في إمدادات الطاقة العالمية من 80% إلى 73% بحلول 2030.
وعلى الرغم من توقع أوبك استمرار الطلب طويل الأجل على النفط، لينمو إلى 116 مليون برميل يوميًا بحلول 2045، فإن «روجر ديوان» تحدث عن اعتقاد «ستاندرد اند بورز» بـ«استمرار الطلب في النمو خلال هذا العقد على الخام»؛ وأن يصل ذروته في 2031 تقريبًا، قبل أن «يعاود التراجع»، لـ«تباطؤ هيكلي» في الطلب على البنزين والديزل ووقود الطائرات -وخاصة في آسيا- وهو السبب الأبرز لهذا التحول.
وفيما يتعلق بالغاز الطبيعي، الذي تعد الدوحة، والرياض، وأبوظبي، من بين أهم المنتجين والمصدرين له في العالم، أوضحت «دوريان» أنه سيبقى ذا أهمية كبيرة خلال تحول الطاقة، وتحديداً لبقاء «الحاجة إليه كنسخة احتياطية للطاقة المتجددة المتقطعة» مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وأوضح «روجر ديوان» كذلك أن دوامه مطلوب «لسببين مهمين للغاية»؛ «لموازنة أنظمة الطاقة»، واستبدال استخدام الفحم في السوق الآسيوية وخاصة بالصين والهند. فيما أوضح أيضًا أنه إذا كانت آسيا الخالية من الكربون هدفًا رئيسيًا لتحول الطاقة العالمية، فإنه لإزالة الفحم «يبقى الغاز هو الخيار الوحيد ليحل محل نمط الطاقة الحالي».
وقد أدرك مراقبو القطاع الخطوات التي اتخذتها دول الخليج لتوسيع صناعات الطاقة المتجددة المحلية الخاصة بها. وكتبت دوريان كيف أن دولة الإمارات، والسعودية، وعمان، على وجه الخصوص «قد حققوا خطوات مثيرة للإعجاب في تطوير إمكاناتهم من الطاقة المتجددة والنظيفة»، وفي منطقة الخليج العربي، سجل معهد الطاقة بتقريره الأخير زيادة توليد الطاقة المتجددة بين عامي 2022 و2023 بنسبة 258.6% في قطر، وزيادة 152.9% في السعودية، وبنسبة 78.4% في دولة الإمارات. وقد ساعدت هذه الأرقام مجتمعة على النمو المشترك لإنتاج الطاقة المتجددة بجميع أنحاء الشرق الأوسط ليبلغ 43% في عام 2023.
وعلقت «دوريان» أيضًا على كيفية «استثمار السعودية، والإمارات، وعُمان، بكثافة في الهيدروجين الأخضر»، وأدرك «ديوان» كيف تقود الرياض طليعة هذا المسعى، مشيرًا إلى كيف قامت شركة «نيوم للهيدروجين الأخضر» ومقرها بمشروع المدينة المستقبلية على ساحل البحر الأحمر، بتوليد ما يصل إلى 4 جيجاوات من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وهو ما يعني إنتاج ما يصل إلى 600 مليون طن من الهيدروجين الخالي من الكربون يوميًا بنهاية 2026.
ومع ذلك، فمن المسلم به أن حجم هذا الإنتاج يتضاءل أمام إنتاج الوقود الأحفوري. وفيما يتعلق بالطاقة الشمسية، سجل معهد الطاقة معدل نمو يزيد على 400% في تركيب الألواح الشمسية بالسعودية، على الرغم من كون هذه الطريقة لا تزال تمثل 0.2% فقط من إجمالي توليد الطاقة بالمملكة في 2023. وفي الوقت نفسه، فإن الإمارات، التي تحوز ما يقرب من ثلاثة أضعاف عدد الألواح الشمسية العاملة (5925 جيجاوات إلى 2285 جيجاوات)، تمثل أيضًا 0.4% فقط من إجمالي إنتاج الطاقة في البلاد. ولكن في الواقع، عند مقارنة إجمالي قدرة توليد الطاقة المتجددة -من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح- في كل من السعودية، والإمارات، ففي حالة الرياض (2285 جيجاوات)، يعادل تقريبًا ما تنتجه جمهورية التشيك، أما أبوظبي (5925 جيجاوات)؛ فهو يشبه بشكل كبير ما تنتجه سويسرا.
كما جرى التطرق إلى حقيقة تركيز دول الخليج العربي على تكنولوجيا احتجاز الكربون وتخزينه من أجل تقليل مستويات انبعاثاته بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين. ويشكل الاعتماد الكبير على هذا المسار، بحسب ديوان، «مشكلة للصناعة» محتملة لعدم «تمكين تلك التكنولوجيا بشكل كامل». وأضاف أيضًا أنها في النهاية «بطيئة» و«غير كافية» لمواكبة تطوير واستخدام مصادر الطاقة المتجددة. وأشار ديوان إلى أن الأمر سيستغرق «ما لا يقل عن 10 إلى 15 سنة» قبل أن تصبح كلفة ذلك «مستساغة» للمنتجين. إلا أن «دوريان» قد عارضت ذلك مؤكدة أن تقنية إزالة الكربون عبر سحبه من الهواء؛ تحظى بالاهتمام، ومازالت أيضًا «قيد أطوارها الأولى من التطوير» وستستغرق «أكثر من عقد حتى تنضج»، ولكنها فعالة بالتأكيد.
وفي تقييم دوريان، مع قيام دول الخليج العربي «ببطء ولكن بثبات» بإزالة الكربون من أسواق الطاقة المحلية الخاصة بها بعيدًا عن النفط والغاز ونحو مصادر الطاقة المتجددة، ستحتاج دول الخليج «إلى إزالة الكربون من عملياتها في مجال النفط والغاز بشكل أسرع للتكيف مع تحول الطاقة». وبالمثل، حث «ديوان» على استعجال هذه العملية في أقرب وقت ممكن، لكنه أدرك أيضًا كيف تحظى كافة دول مجلس التعاون الخليجي «بقدرات مختلفة جدًا، سواء من حيث الموارد، أو رأس المال، أو القدرات».
كما أقر المراقبون الغربيون بافتقار أعضاء مجلس التعاون الخليجي لوضع اقتصادي أو استراتيجي يسمح لهم بإنهاء اعتمادهم على إنتاج النفط والغاز وتوسيعهما. وسجل «ديوان» كيف لا يزال لديهم «أدنى كلفة» لإنتاج النفط، ومن ثم سيكونون على الأرجح «آخر المنتجين» لهذا الشكل من الطاقة، في مرحلة التحول العالمي. ومن ثم فقد قدر أن المسألة المطروحة هي «مسألة تتعلق بالأسعار وتوليد الإيرادات» على المدى الطويل. وقد وافقت على هذا التقييم «كارين إي يونغ» باحثة بارزة بمركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا، التي أشارت إلى قناعة المنتجين الخليجيين باستدامة الطلب على منتجاتهم؛ لأنها «شريان الحياة»، ورأت «عائشة السريحي» باحثة بجامعة سنغافورة الوطنية، أن دول مجلس التعاون يعتقد أنهم «سيواصلون الوجود» في سوق الطاقة «لأنهم سيبيعون الوقود الأقل كثافة للكربون في المستقبل».
ومن هنا، ووسط تنامي الحديث عن تحول عالمي متقدم في مجال الطاقة، حيث تعمل الحكومات الوطنية والمؤسسات العالمية والمعنيون بمجال الطاقة على تعزيز البحث والتطوير وإنتاج أشكال طاقة متجددة أنظف وأكثر كفاءة، مع وضع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في طليعة الاهتمام الحالي؛ فإنه يجب أن نضع في الحسبان المشهد الاقتصادي والاستراتيجي الحالي لسوق الطاقة الدولية. وفي هذا الإطار تُفصح تعليقات «دوريان وديوان» وغيرهما عن ضرورة خضوع التوازن المحلي لإنتاج الطاقة بين الهيدروكربونات ومصادر الطاقة المتجددة؛ لتغيير أكثر وضوحًا وطويل الأجل لمواكبة أهداف الانبعاثات العالمية، ما حدا بديوان إلى القول إن دول الخليج العربي، وخاصة السعودية، موجودة حاليًا «في المكان الذي يجب أن تكون فيه»، وذلك لضمان مكاسبها الاقتصادية على المدى الطويل، وأخذها بما يتيح لها مجابهة تطورات العقود المقبلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك