عملت سلطات الاحتلال، منذ بدْء العدوان الشامل على الشعب الفلسطيني، على فرْض عزل تام وشامل بحق الأَسرى والمعتقَلين الفلسطينيين، إذ منعت منذ اللحظة الأولى زيارات المحامين واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وبالتزامن مع ذلك، بدأت تمارس القمع والضرب والترهيب والتعذيب وسوء المعاملة بحق كل أسير ومعتقَل فلسطيني داخل السجون. ورافقت هذه العمليات محاولات إذلال وتركيع للأَسرى عبْر تجريدهم من ملابسهم وضرْبهم وهم عراة، وذلك بصورة متعمدة من جانب إدارة مصلحة السجون والقوات الخاصة التابعة لها، إذ أرادت فرْض تدابير انتقامية وعقابية تعسفية بحق المعتقَلين من دون أي ضوابط قانونية أو قضائية.
وفي السياق نفسه، بدأت السلطات أيضاً تنفّذ حملات اعتقال واسعة، هدفها الأساسي انتقامي، ومن ثم محاولات إسكات للصوت الفلسطيني المنتفض في وجه الإبادة الجماعية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني. ولأن الاحتلال يسعى لِزَجِّ أكبر قدر من الفلسطينيين وراء القضبان، فإنه يستخدم أسهل وسيلة ممكنة لفعل ذلك، أَلَا وهي الاعتقال الإداري؛ إذ يقبع ما يزيد على 3400 معتقَل إداري في سجون الاحتلال من دون تقديم أي تُهَمٍ بحقهم، ومن دون إجراءات قانونية للمحاكمة. كما تنتهج سلطات الاحتلال سياسة اعتقال الفلسطينيين على خلفية تُهَمٍ تتعلق بـ«التحريض على وسائل التواصل الاجتماعي»، إذ اعتقلت عشرات الفلسطينيين بعد 7 أكتوبر، وقدّمت بحقهم لوائح اتهام بـ«التحريض على الإرهاب»، وهي أيضاً وسيلة أُخرى تستخدمها السلطات لِزَجِّ أكبر قدر من الفلسطينيين في السجون لممارستهم الحق في حرية الرأي والتعبير، وقد وصلت إلى حدّ اعتقال امرأتَين فلسطينيتَين تحمل كل واحدة منهما جنينا في أحشائها، وذلك بحجة نشْر منشورات على صفحاتهما الشخصية، تحت ادعاء أنها تشكّل تحريضاً على «الإرهاب»، وكل هذه الممارسات تأتي في محاولة لترهيب الشعب الفلسطيني وثنيه عن ممارسة حقوقه الأساسية.
ولم تكتفِ سلطات الاحتلال بهذا وحسب، بل أيضاً أظهرت «وجهها الحقيقي» عبر تعذيب المعتقَلين الفلسطينيين بصورة هستيرية، وإن كانت دولة الاحتلال تمارس التعذيب الممنهج بكل أشكاله بحق الفلسطينيين منذ سنة 1948، إلاّ إنها صعّدت من ممارستها، وبصورة جماعية، خلال حرب الإبادة الجماعية المتواصلة. وما أعنيه هنا بالوجه الحقيقي للاحتلال أنه يقوم بممارسة التعذيب الجماعي بحق الفلسطينيين علناً، وبسلطاته الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وذلك لتكريس ممارسة جريمة التعذيب وإضفاء الشرعية على مرتكبيه. فمن جهة، تقوم الجهات التشريعية بالتعديل على القوانين والأوامر العسكرية لفرْض عزل تام على المعتقَلين من قطاع غزة والمصنَفين كـ«مقاتلين غير شرعيين» بِمَنْعِهِم من لقاء محاميهم مدة 6 أشهر متواصلة، وهو ما يعني عدم قدرة المحامين على لقاء المعتقَلين وتوثيق جرائم التعذيب الممارَسة بحقهم. أمّا السلطة التنفيذية، والمتمثلة في جنود الجيش وضباطه، وضباط الشاباك والاستخبارات، وقوات مصلحة السجون، فَهُم المسؤولون عن ارتكاب جرائم التعذيب وسوء المعاملة بحق المعتقَلين الفلسطينيين، سواء أكان ذلك في السجون التابعة لإدارة مصلحة السجون، أم في المعسكرات التابعة للجيش، أم في مراكز التحقيق المتعددة التابعة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الشاباك). وفيما يتعلق بالسلطة القضائية المتمثلة في المحاكم العسكرية والمحاكم المدنية الإسرائيلية، فإنها تعمل بصورة ممنهجة على تمديد توقيف المعتقَلين الذين تعرضوا للتعذيب وسوء المعاملة، وتعقد جلسات غيابية للمعتقَلين غير القادرين على حضور الجلسة بسبب وضعهم الصحي الصعب نتيجة للتعذيب الذي تعرضوا له.
وكل جرائم التعذيب هذه تمارَس في العلن، وحين نقول «في العلن»، فإن هذا يعني في المفهوم القانوني أن سلطات الاحتلال تقدّم الدليل الواضح ضد نفسها. وليست المقاطع التي ينشرها جنود جيش الاحتلال وضباطه وهم يمارسون التعذيب وسوء المعاملة بحق المعتقَلين الفلسطينيين إلاّ دليلاً على تمتُع الاحتلال بثقافة الإفلات من العقاب. وما كان يمارسه سابقاً من تعذيب بحق الفلسطينيين تحت غطاء قضائي وقانوني، أصبح يُمارَس الآن أمام كاميرات هواتف الجنود، ويُنشر على مرأى ومسمع من العالم أجمع، ولقد نشروا العشرات من مقاطع الفيديوهات والصور وهم يقومون بضرْب المعتقَلين الفلسطينيين وتعذيبهم وإذلالهم، وتعمّدوا نشْر معظم المقاطع للمعتقَلين وهم عُراة، وقاموا بالاستهزاء بهم، وأجبروهم على حمْل العَلَم الإسرائيلي ووضْع أغاني باللغة العبرية مع رقص الجنود حولهم وَهُم مقيدو الأيدي ومعصوبو الأعين، كما نشروا مقاطع لسحْل المعتقَلين الفلسطينيين وهم مقيَّدون، مع ضرْبهم على الوجه والرأس ببساطير الجنود، وكلّها مقاطع فظيعة جداً تُظهر: أولاً، إجرام الكيان الصهيوني عبْر تفاخُره بارتكاب التعذيب من جانب، وثانياً، الحصانة التي يتمتع بها جنوده من جانب آخر. فتصوير مشاهد لتعذيب المعتقَلين ونشْرها يشكّل دليلاً ربما يقدَّم ضد مرتكبيه إلى المحاكمة والإدانة، ومع ذلك، فإنه لم يأبه أي من مرتكبي هذه الجرائم لهذه الأدلة، ولم تأتِ ثقة الجنود هذه من فراغ، إنما أتت نتيجة سنوات طويلة من الحصانة التي تمتَّعوا بها، والإفلات الدائم من العقاب على الجرائم التي ارتكبوها. وفي ظل غياب كامل للمساءلة، وانتظار صدور أوامر الاعتقال من جانب المحكمة الجنائية الدولية بحق قادة الاحتلال، تبقى هذه الأدلّة شاهدة على تقاعُس العالم أجمع عن محاسبة منظومة الاحتلال على جرائمها الفظيعة.
وفي ظل حالة العجز التي تخيّم على شعور أي محامٍ يدافع عن الأسرى والمعتقَلين الفلسطينيين بسبب جرائم الاحتلال بحقهم، فإن تلقّي المعلومات بشأن مصيرهم عن طريق الصحف العبرية يفاقم هذه الحالة؛ إذ إنه في ظل العزْل الشامل الذي تفرضه سلطات الاحتلال بحق المعتقَلين، ومنْع المحامين من التواصل وزيارة المعتقَلين من قطاع غزة مدة 7 أشهر، فإننا ننتظر صدور المقالات عن الصحف العبرية لنتبلّغ باستشهاد معتقَل آخر داخل سجون ومعسكرات الاحتلال، من دون تمكُّننا من معرفة أي معلومة بشأنه: اسمه، أو أوضاع استشهاده، وهو ما يثير حالة من الفوضى تعمّ كل بيت فلسطيني.
لقد استشهد ما يزيد على 36 معتقلاً فلسطينياً داخل معسكرات الجيش التي افتُتحت منذ أكتوبر لِزَجِّ المعتقَلين الفلسطينيين من قطاع غزة، ومئات المفقودين حتى الآن تنتظر عائلاتهم جملة واحدة فقط: «بيّن معنا.. ابنك معتقَل» لتلتقط أنفاسها وتعود إلى خيمتها القائمة تحت القصف والدمار. أمّا الجملة التي تفطر القلب وتلعثم لسان ناطقها، فهي: «للأسف.. ردولنا خبر، ابنك مش موجود بين المعتقلين»، لتعود العائلة إلى البحث بين حطام منزلها، وتحت ردم بيتها، وفي المستشفيات، والشوارع، عن جثمان ربما يكون للابن المفقود الذي ظُنَّ أنه معتقل.
فبعد 8 أشهر من الإخفاء القسري الممارَس بحق معتقَلي قطاع غزة، بدأت سلطات الاحتلال التجاوب مع مطالبات المحامين بالكشف عن مصير المعتقَلين وأماكن وجودهم، وعلى الرغم من تمكُّن المحامين من معرفة مصير عدد من المعتقَلين، فإن هناك عدداً من الفلسطينيين يبقى في عداد المفقودين، وهو ما يضاعف الألم لدى عائلاتهم وأحبائهم، ويعود بنا إلى ذاكرة النكبة التي لم تتوقف يوماً.
هذا هو حال مئات الفلسطينيين القابعين تحت التعذيب المستمر والمتواصل، والذين يواجهون أبشع منظومة استعمارية عرفها التاريخ، مع تواطؤ العالم كلّه في جرائم التعذيب التي ترتكبها سلطات الاحتلال في العلن من دون أي محاسبة. وكل ما شاهدناه أو سمعناه بشأن التعذيب الذي تعرّض له المعتقلون الفلسطينيون، وخصوصاً معتقلي قطاع غزة، هو قشة في كومة حكايات فظيعة ستَظْهَرُ فَوْرَ وقْف حرب الإبادة القائمة.
{ مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك