التعليم المبكر من المراحل التعليمية المهمة في أي نظام تعليمي في العالم، بل أصبح هذا النوع من التعليم أحد المؤشرات الدالة على تطور النظم التعليمية، ولهذا نرى الدول التي لها سبق في التعليم، وتتصدر لوحة الشرف في هذا المجال على مستوى العالم هي تلك التي تولي التعليم المبكر جل اهتمامها ورعايتها من خلال وضعه على رأس أولوياتها في تطوير منظومتها التعليمية.
بناء على ذلك؛ فإن الدول التي تسعى نحو الدخول في منافسات التعليم على مستوى العالم لا يمكن لها أن تحقق هذا الهدف إذا لم تضع التعليم المبكر على رأس أولوياتها؛ لأنه هو الرافعة للمنظومة التعليمية وهذا ما يؤكد عليه معظم التربويين الثقات في دراساتهم ومؤلفاتهم.
البحرين إحدى الدول التي تتطلع إلى تحقيق مراكز متقدمة في ماراثون منافسات التعليم على مستوى العالم؛ فجاءت رؤيتها الاقتصادية 2030 التي أطلقتها في عام 2008 لتؤكد أن التعليم يمثل أحد المرتكزات الأساسية لتحقيق هذه الرؤية.
بعد مرور ستة عشر عاما على تنفيذ هذه الرؤية في جانبها التربوي نجد أنفسنا أمام أسئلة مهمة: هل خطونا خطوات على طريق إصلاح المنظومة التعليمية بحيث تؤهلنا للدخول في المنافسات العالمية في التعليم أم إننا ما نزال نعيش على ايقاع المشكلات التعليمية نفسها قبل هذه الرؤية والتي على رأسها من وجهة نظري مشكلات التعليم المبكر التي أرى أن إصلاحه هو البداية الحقيقية لإصلاح التعليم والبوابة الحقيقية التي ندخل من خلالها في نادي المتربعين على عرش التعليم في العالم.
هذه الأسئلة مهمة من أجل وضع سياسة جديدة للتعليم المبكر، ومن أجل الانتباه إلى أثر هذا النوع من التعليم في تطوير المنظومة التعليمية؛ لأن الواقع الحالي للتعليم المبكر لا يسر، وغير ناجح في تحقيق أهدافه ونتمنى ألا تصل سنة 2030 ونحن نعيش لحظة إخفاق مرة أخرى في هذا النوع من التعليم.
فإذا كان العالم اليوم، ينظر إلى أهداف التنمية المستدامة على أنها تمثل إطاراً مرجعياً لرسم السياسات العامة وفقا لمقاربة عالمية وشاملة تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الاقتصادية والتقنية المتسارعة محورها الطفل، مرجعنا في ذلك إحصائيات (2019) التي تبين أن 26% من السكان تقريباً في مملكة البحرين هم من الأطفال؛ وهو ما يفترض بالضرورة الالتفات إلى مرحلة الطفولة المبكرة وإيلائها العناية القصوى، والحرص على تمتع كل الأطفال في حقهم في التربية ما قبل المدرسية حيث تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين لا يرتادون مؤسسات رياض الأطفال هم الأكثر عرضة للتسرب والانقطاع المدرسيين، وهم أيضاً الأكثر تهديداً بانخفاض مستوى التحصيل العلمي ومن ثم الأكثر قابلية للشعور بالدونية والحقد الاجتماعي.
لا نريد أن نسهب أكثر في سرد الأدلة التي تؤكد أهمية مرحلة الطفولة المبكرة؛ لأن المجال هنا لا يسعنا للدخول في التفاصيل ولكن يكفي أن نقول: إن الحياة النفسية السليمة تبدأ في التشكل من الطفولة، وبناء على ذلك نؤكد أنه ليس من صالح المجتمع أن يكبر الأطفال في ظروف غير عادلة والفرص فيها غير متكافئة، بل إن مصلحة المجتمع تكمن أساساً في عدم التمييز حتى لو كلفه ذلك موارد مالية كبيرة. فالاستثمار في الرأسمال البشري في مرحلة الطفولة يسهم في تنشئة شخصيات متوازنة ويجنبنا ظهور أشخاص لديهم قابلية للانحرافات السلوكية والمجتمعية.
من هذا المنطلق؛ فإننا نؤمن بأن المعارف والمهارات التي تتحقق لدى الطفل منذ الولادة إلى غاية الست سنوات وما بعدها تؤثر كل التأثير على باقي المسار الدراسي والحياتي؛ إذ يسهم التعليم ما قبل الابتدائي في تحفيز وإذكاء قدرات الطفل في التفكير وتطوير ملكاته العقلية الأساسية وتنمية ذكاءاته المتعددة.
إذن، فإن الاهتمام بتربية الطفولة المبكرة لم يعد ترفاً، بل بات ضرورة تربوية واجتماعية ملحة خاصة إن واقع هذه التربية في بلادنا لا يزال متعثراً على الرغم من كل الجهود التي بذلت من جهة الدولة ممثلة في مؤسساتها وهيئاتها منذ سنوات مضت – وما تزال – من أجل انتشال هذه التربية من عثراتها المزمنة، إلا أن هذه العثرات لا تزال مستمرة حتى الآن.
في اعتقادي، ان هناك أكثر من عامل وراء استمرار مشكلات التعليم المبكر في مقدمتها: إن مقاربات الحلول التي قدمت آنذاك لم تكن شمولية وجذرية بحيث تقتلع المشكلات من جذورها، وإنما كانت حلولا وقتية وغير مستدامة وهو ما جعلها تستمر إلى اليوم.
في وسط العتمة التي تغطي أسوار مؤسسات التعليم المبكر؛ ظهر في الأفق ما يبشر بانقشاع الظلام عن فضاءات الطفولة المبكرة؛ حيث عقدت اللجنة الإشرافية لبرنامج (المربية والمعلمة الوطنية) اجتماعها الثالث برئاسة سمو الشيخة حصة بنت خليفة آل خليفة عضو المجلس الأعلى للمرأة. هذه اللجنة التي تشكلت بتوجيه من صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة قرينة ملك البلاد المعظم رئيسة المجلس الأعلى للمرأة، لا شك أن مثل هذا الاجتماع هو تحريك للمياه الراكدة في مؤسسات التعليم المبكر وإعادة الحياة إلى العاملين بهذه المؤسسات بعد أن جثم اليأس على صدورهم، إذ مع بدء أعمال هذه اللجنة تنفس هؤلاء الصعداء وعاد الأمل يراودهم من جديد بأن المجتمعين في هذه اللجنة سيبحثون كافة المشكلات التي يعاني منها قطاع التعليم المبكر، وسيقترحون الحلول المناسبة لها، وسيقدمون المبادرات التي تنتشل واقع التعليم المبكر من عثراته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك