تقف على باب الخيمة في الخارج، وتصدر صوتا خافتا على شكل نحنحة خجولة، وتحرك الباب برفق بحيث يشعر مَنْ في الداخل بقدومها، ويكون الوقت مبكراً جداً، ولذلك، فإن مَنْ في الداخل يعرفون حتماً مَنْ في الخارج، فيطل أحدهم رأسه وهو يحمل «بقجة» كبيرة من الملابس، ويمدها نحوها من دون أن ينبس ببنت شفه، وتفعل هي بالمثل، فتلتقط البقجة وتغيب سريعاً عن ناظرَيه، وتعود في ساعات المساء، لكن هذه المرة، حاملة بين كفَيها محتوى البقجة على شكل عمود صغير من الملابس المهندمة والمرتبة، التي تفوح منها رائحة مسحوق غسيل يدوي رخيص، ومع ذلك، فإن الرائحة تشي بأن الملابس نظيفة، وأن من قام بغسلها قد اعتنى بذلك جيداً.
إنها في الثالثة عشرة من عمرها، لكنها فجأة شعرت بأنها قد أصبحت تبلغ أضعاف هذا العمر حين فقدت ألعابها في بيتهم الصغير في شمال غزة، وأصبحت هنا في خيمة مع أقاربها، وقد استشهد والداها وإخوتها الأربعة، ولم يبقَ سواها، هي وشقيقها الأصغر الذي يبلغ السادسة من عمره، فأخذها أحد أقاربها لتعيش معهم في خيمة، ولم يبق لها غيرهم، وصور باهتة للبيت الصغير الذي ذهب وذهب معه والداها وباقي إخوتها.
وهي لا تدري كيف فرّوا رعباً من بيتهم بعد قصْفه، ولم تشعر بنفسها إلاّ وقد تحولت قدماها إلى آلة للعدو، وبينما كانت تركض، سمعت صوت بكاء وراءها، فتوقفت قليلاً لتجد شقيقها الأصغر يمسك بثوبها ويبكي، وهكذا أدركت أنه لم يبقَ غيرهما على قيد الحياة، وسمعت صوت إحدى قريباتها التي كانت تسكن في بيت قريب من بيتهم تحثها على الإسراع في الجري، وهكذا وصلوا إلى هذا المكان بعد أن تنقّلوا من مكان إلى آخر، وها هي تعيش في هذه الخيمة مع شقيقها الذي أصبحت أمًّا له، لكن عليها أن تعيل نفسها وألاّ تشعر بأنها عالة على أقاربها الذين تربطهم بعائلتها صِلَة بعيدة.
وهكذا تفتّق ذهنها الصغير عن فكرة، فأصبحت تغسل الملابس لمن يحتاج إلى ذلك مقابل مبلغ صغير، وغالباً ما تكون ملابس خاصة بالعاملين في المؤسسات الدولية، كالصحفيين، وموظفي الإغاثة، الذين يقضون فترات طويلة في خيام مخصصة لهم، فتغسل ملابسهم لقاء مقابل مادي، وأحياناً يمنحونها بعض الطعام.
لقد وجدت نفسها لا تعرف الأيام، لكنها تفكر في الصباح حين يأتي لكي تسرع وتنتهي من عملها وتراقب الملابس النظيفة إلى أن تجف على حبال قريبة من خيمتها، ثم تعود بها إلى أصحابها، وحين تحصل على بعض المال، تشتري قطعة حلوى لشقيقها، وقد استطاعت أن تدّخر مبلغاً صغيراً، وابتاعت له خفاًّ من البلاستيك بعد أن ظل أياما طويلة يمشي حافياً.
حالها لا يختلف كثيراً عن حال طفل آخر لم يبقَ من عائلته سواه، وأصبح مسؤولاً عن نفسه، وقد رآه الجميع بعيون باكية وهو يمشي في جنازة أخيه الأخير المتبقّي من العائلة، وشعروا كلّهم بما يشعر به قلب الصغير من أسى، وَهُم لا يعرفون كيف وصل إلى جنوب القطاع مع شقيقه، لكنه لم يبقَ صامتاً، وتحدّث عن قصْف بيتهم في مدينة غزة، وكيف ظل يركض مع شقيقه إلى أن وجد نفسه بين جموع غفيرة من الناس وأصوات تطلب منهم عبر مكبرات الصوت وبلكنة غريبة، لكن بكلمات عربية، أن يتوجهوا إلى الجنوب، وهكذا، وجد نفسه في جنوب القطاع، ويده الصغيرة تمسك بيد شقيقه الذي يصغره بعامَين، وأنهما أمضيا أياماً طويلة وهما يجمعان بقايا الطعام، حتى تعثّرا بعبوة تشبه عبوات المعلّبات، فطار بها شقيقه فرحاً ظناًّ منه أنها ستكون وجبة مشبعة ليوم كامل، وحين فرّ بها بعيداً لكي يستأثر بِفَرْحَةِ فَتْحِهَا، تبيّن أنها عبارة عن قنبلة انفجرت بين يدَيه، وأودت بحياته على الفور. وهكذا، فقد أصبح وحيداً يعمل في نقْل الماء للنازحين في مقابل لقمته، وقد عمل هذا العمل المرهق لطفولته من أجل أن يؤمّن قروشاً ابتاع بها معطفاً لشقيقه، وها هو اليوم يصبح وحيداً ومسؤولاً عن نفسه، ولا يعرف شيئاً عن عائلته سوى أسمائهم.
أمّا الأب الثلاثينيّ، فبعد رحيل زوجته، وبدقّة أكثر، بعد أن تركها تحت الأنقاض، أصبح عليه أن يعتني بأطفالهما الأربعة، وخصوصاً ابنه الأكبر ذا الـ12 عاماً، الذي يعاني جرّاء شلل دماغي منذ ولادته. والأهم من ذلك كلّه، أصبح عليه أن يبحث عن مصدر رزق في مخيم النزوح، ولم يجد أمامه حلاًّ سوى أن يقيم «بسطة» صغيرة، ويبيع فوقها بعض مواد التنظيف الرخيصة، التي يقوم بتركيبها بيدَيه، فقد اكتسب هذه الخبرة من عمله في أحد مصانع المنظفات في إحدى مدن فلسطين المحتلة، ومع بدء الحرب على غزة وعودته إليها، استطاع أن يتعلم المبادئ الأولية لهذه الصناعة ومن خامات بسيطة. وهكذا، أصبحت له «بسطة» أمام الخيمة، وحين يتعيّن عليه العناية بنظافة ابنه المريض، الذي يحتاج إلى حمام يومي على الرغم من عدم توافر الماء، وتطلُّب ذلك جهداً مضاعفاً، مِن إشعال النار وتسخين الماء وتغسيل كائن لا يستطيع أن يساعده حتى في خلع ثيابه، فهو يترك بضاعته لابنته الصغيرة ذات الـ10 أعوام، والتي تقوم ببيع الزبائن، لكنها على الرغم من ذلك، فإنها تتعرض للاستغلال، إذ هناك مَن يسرق منها جزءاً من البضاعة خلسة، وهناك من يعطيها نقوداً ممزقة ومهترئة، لكنه لا يستطيع سوى أن يفعل ذلك كي يرعى ابنه المريض، ثم يعود ليقف أمام بسطته بينما تقوم طفلته، التي أصبحت أمًّا لإخوتها الصغار، بغسل الملابس وتنظيف الخيمة بقدر استطاعتها إلى أن يحين موعد الوجبة اليومية، التي يجتمعون عليها، والتي لا تزيد على معلبات رديئة الجودة مع خبز جاف تقوم جارتهم العجوز بِخَبْزِهِ على الحطب بعد أن يمنحوها الدقيق وقليلاً من خميرة الخبز.
ولأن هؤلاء وغيرهم استطاعوا أن يكونوا آباء وأمهات صغاراً في غياب الآباء والأمهات الكبار، فإن الطفلة «حلا نصار» تتساءل عبر وسائل الإعلام، بعد ارتقاء أمها، طالبة المساعدة من هذا العالم الصامت، فهي لا تدري على صِغَرِ سنّها كيف ستعتني بشقيقها ذي العامَين ونصف العام، الذي أصبح وحيداً، ولا تعرف كيف ستصبح أمًّا كبيرة لهذا الصغير وهي في الحقيقة في حاجة إلى أم ترعاها، إذ لا تزال في مرحلة الطفولة، ومن الظلم أن تحمل حملاً لا تطيقه، لكنه ظُلم العالم الذي أودى بأطفال غزة إلى هذا الطريق، ففقدوا طفولتهم وحقوقهم، وقاموا بأدوار أكبر منهم، تاركين ألعابهم وأَسِرَّتَهم الدافئة، وأحلامهم التي تحولت إلى كوابيس تقتل طفولتهم في الصباح وتلاحقهم في المساء.
{ كاتبة من غزة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك