كل من يعيش في جزيرة سيكون مباشرة في مرمى تداعيات ومؤشرات نزول مشكلة التغير المناخي الكثيرة والمختلفة، وخاصة التداعيات البيئية المتعلقة بارتفاع درجة حرارة مياه البحر وارتفاع مستوى سطح البحر الناجم عن سخونته. وهذه التداعيات تؤدي إلى زيادة أعداد الفيضانات الساحلية واتساع دائرتها وشدتها وتكرار وقوعها، وفي الوقت نفسه فمثل هذه الفيضانات تضرب المجتمعات والمرافق الساحلية، وتهلك البشر والشجر والحجر، وكل شيء يقف أمامها وفي طريقها.
وهذا «السيناريو» ينطبق على كل الدول الجزرية، ونحن في البحرين لسنا بمنأى عن جميع تداعيات التغير المناخي الخاصة بالبيئة البحرية، وخاصة أن الدراسات والتقارير الميدانية تؤكد تفاقم هذه التداعيات مع الزمن ووضوح مؤشراتها، وبالتحديد ارتفاع حرارة مياه البحر وارتفاع مستوى سطح البحر نتيجة للازدياد المطرد لانبعاث الغازات المتهمة بوقوع ظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري، أو التي يطلق عليها الغازات الدفيئة، مثل غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث عن أي عملية احتراق لمشتقات النفط والغاز الطبيعي، إضافة إلى غاز الميثان، وأكسيد النيتروز، والمركبات العضوية التي تحتوي على الكلورين والفلورين.
وقد نشرت «الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء» (ناسا) في 21 مارس 2024 تقريراً تحت عنوان: «ارتفاع مستوى سطح البحر»، وهذا التقرير الدوري يأتي ضمن سلسلة من التقارير عنوانها: «بيانات الأرض» (Earthdata)، وحسب برنامج «ناسا» المتعلق بـ«بيانات أنظمة علوم الأرض». وهذا التقرير يعد آخر دراسة حول أنماط التغيرات في مستوى سطح البحر على المستوى الدولي، وقد اعتمدت الدراسة في نتائجها على أحدث التقنيات وأكثرها تطوراً ودقة ومصداقية، مثل الأقمار الصناعية المتخصصة في تقديم البيانات والمعلومات البيئية، وخاصة المتعلقة بمؤشرات التغير المناخي، كما أن الدراسة قدَّمت بيانات مراقبة التغير في مياه سطح المحيطات لأكثر من 30 عاماً، وبالتحديد من عام 1992 إلى 2023.
فقد خلصت الدراسة إلى حدوث قفزة كبيرة وغير مسبوقة في مستويات سطح المياه في المحيطات على المستوى الدولي خلال الثلاثة عقود الماضية، ويمكن تقديم أهم الاستنتاجات كما يلي:
أولاً: المعدل العالمي لمستوى سطح البحر ارتفع قرابة 0.76 سنتيمتر من عام 2022 إلى 2023، أي بزيادة قرابة أربعة أضعاف عن السنة الماضية، حيث كان المعدل 0.2 سنتيمتر كل سنة.
ثانياً: الزيادة المطردة سنوياً لمستوى سطح البحر من عام 1993 إلى 2020، حيث كان المعدل الإجمالي لمستوى سطح البحر عالمياً في عام 1993، 0.18 سنتيمترا وارتفع سنوياً إلى أن وصل إلى 0.43 سنتيمتر حالياً. والتقديرات التي جاءت في الدراسة تفيد بأنه بحلول عام 2050 سيرتفع معدل مستوى سطح البحر 20 سنتيمتراً إضافياً، أي علينا أن نُضيف 20 سنتيمتراً على المعدل العالمي السنوي.
ثالثاً: المعدل الإجمالي لارتفاع مستوى سطح البحر بلغ اليوم 10.1 سنتيمترات منذ عام 1993 وحتى عام 2022.
رابعاً: تشير الدراسة إلى أن هناك سببين رئيسيين لهذه الزيادة الكبيرة في أنماط تغير مستوى سطح البحر على المستوى العالمي، وبالتحديد في السنوات القليلة الماضية. أما السبب الأول فهو طبيعي ولا علاقة له بأيدي وأنشطة الإنسان بشكلٍ مباشر وهو ظاهرة ألنينو (El Nino)، حيث تسخن مياه المحيط وترتفع سخونتها أكثر وأعلى من السخونة الطبيعية، إضافة إلى سقوط الأمطار وانصهار الثلوج ودخولها مع مصادر المياه العذبة الأخرى في مياه البحار ورفع مستواها.
وأما السبب الثاني لارتفاع مستوى سطح المحيطات فهو من صنع أيدينا، وله علاقة مباشرة بأنشطة الإنسان التنموية على مدى قرنين من الزمن، والتي تتمثل في حرق الوقود الأحفوري في السيارات ومحطات توليد الكهرباء والطائرات والمصانع وغيرها، وانبعاث الغازات الملوثة للهواء الجوي، والتي كوَّنت طبقة في السماء العليا تحبس هذه الملوثات فتقوم بدورها بحبس الحرارة المنعكسة من الأرض وتمنع انتشارها وتشتتها، فتكون ظاهرة الانحباس الحراري، أو المعروفة بظاهرة التغير المناخي. ولهذه الظاهرة مؤشرات تؤكد صحتها وواقعيتها على الأرض، مثل ارتفاع درجة حرارة الأرض وسخونة كوكبنا، وهذه الحرارة المرتفعة للأرض تمتصها مياه البحار فترتفع حرارتها مما يؤدي إلى تمددها وارتفاع مستواها مع الوقت. وقد نُشرت دراسة في مجلة: «طبيعة التغير المناخي» (Nature Climate Change) في 15 مارس 2024 تحت عنوان: «تأثير الإنسان على الدورة الموسمية لدرجة حرارة سطح البحر»، حيث أفادت بأن ارتفاع تركيز الملوثات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض، أو الغازات الدفيئة هي التي تسببت في ارتفاع درجة حرارة البحر، كما أصدرت وكالة حماية البيئة الأمريكية تقريراً حول هذا الموضوع تحت عنوان: «مؤشرات التغير المناخي: مستوى البحر» في يوليو 2022.
وكل هذه الزيادة المستمرة سنوياً منذ عقود طويلة لمستوى سطح البحر تنتج عنها كوارث طبيعية أسهم البشر في وقوعها، وخاصة الفيضانات والأعاصير وتدميرها للمرافق الساحلية وغرقها كليا، إضافة إلى موت البشر وقتل الشجر. ومن أكثر الدول تأثراً بارتفاع مستوى سطح البحر هي الدول الجزرية ومنها البحرين، حيث إن معظم المرافق الحيوية، والتنموية الصناعية، والإسكانية، والمنتجعات تقع مباشرة على مستوى سطح البحر وقد بنيت على مساحات كبيرة مدفونة من البحر، مما يعني أن أي زيادة وارتفاع في مستوى سطح البحر قد تكون لها عواقب وخيمة على هذه المنشآت الساحلية وعلى سكانها. ونظراً إلى أهمية هذه الظاهرة وتداعياتها التي لا تعد ولا تحصى على الأمن الدولي، فقد خصصت الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن جلسة خاصة في 14 فبراير 2023 لمناقشة التغير المناخي، مع التركيز على ارتفاع مستوى سطح البحر، تحت عنوان: «ارتفاع مستوى سطح البحر: الآثار المترتبة على السلم والأمن الدوليين»، حيث قال الأمين العام للأمم المتحدة إن: «ارتفاع مستوى سطح البحر لا يشكل تهديداً فقط في حد ذاته، وإنما هو تهديد متعدد الجوانب. فبالنسبة إلى مئات الملايين من الناس الذين يعيشون في الدول الجزرية الصغيرة النامية وغيرها من المناطق الساحلية المنخفضة في مختلف أنحاء العالم، فإن ارتفاع مستوى سطح البحر يشكل وابلاً من المشاكل»، كما أضاف قائلاً: «ويهدد ارتفاع مستوى مياه البحار، وُجُودَ بعض المجتمعات المنخفضة وحتى البلدان».
فالقضية إذن حقيقية، والمشكلة واقعة لا محالة بعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن، فماذا أعددنا لمواجهتها؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك