يشير مفهوم القوة الناعمة إلى قوة التأثير من دون إكراه، أو استخدام القوة الخشنة، كالمسلحة أو العقوبات الاقتصادية، وإلى هذا صارت من أهم أدوات التفاعل في العلاقات الدولية على المستويين الإقليمي والدولي، خاصة مع الاتجاه العالمي إلى نبذ استخدام القوة المسلحة في سياق هذه العلاقات، حيث تبحث الدول عن مقومات القوة الناعمة لديها، وتوظفها لخدمة أهداف مشروعها التنموي وسياساتها الخارجية.
ولعل من بين أهم مقومات القوة الناعمة التي تعزز مكانة الدولة، هو «موقعها الجغرافي»، فعلى سبيل المثال، استطاعت «سنغافورة»، الجزيرة الصخرية التي تستورد احتياجاتها من الماء العذب أن توظف موقعها في خدمة التجارة العالمية، ما أسهم في نهوضها الاقتصادي، وأدى إلى اعتبارها واحدة من النمور الآسيوية البارزة. إضافة إلى ذلك، يلعب «التقدم التكنولوجي» دورًا حاسمًا، كما يتضح من أمثلة «الولايات المتحدة»، و«ألمانيا»، و«اليابان»، فيما يُعد «الإرث الحضاري» أيضًا عاملًا مهمًا، كما نرى في «الصين»، و«الهند»، و«مصر».
بالإضافة إلى ذلك، تستغل بعض الدول مواردها لتلبية احتياجات أساسية للبشرية، مثل دور «دول الخليج» في «أمن الطاقة العالمي»، وتخصيص جزء كبير من عوائد تصديرها لدعم التنمية العالمية. فيما تلعب قوة «التأثير الثقافي»، «دورًا بارزًا» كذلك، مثل احتضان السعودية للأماكن المقدسة التي تهفو إليها قلوب المسلمين، وتأثير السينما والدراما والأغنية المصرية في العالم العربي، وتأثير السينما الأمريكية والإيطالية والهندية عالميًا. بالإضافة إلى «التميز التجاري»، كما في إنتاج الهند للشاي، والبرازيل للبن، و«التميز الرياضي»، مثل براعة البرازيل في كرة القدم، والولايات المتحدة في كرة السلة. وعليه، تتنوع مقومات القوة الناعمة وتشمل العديد من العوامل، ويعتبر الاستثمار فيها وتوظيفها أمرًا لا غنى عنه لخدمة الأهداف الوطنية لكل دولة.
وبالتوازي مع أهميتها المتزايدة بدأت بعض المؤسسات الدولية بإصدار تقارير سنوية تضع مؤشرات لقياس قوتها، وتحديد الممارسات التي تسلكها في سبيل تعزيزها. ويبرز التقرير الذي تصدره مؤسسة «براند فايينانس»، كأحد أشهر تلك التقارير؛ نظرًا لأنه يغطي قاعدة أكبر من الدول، وضخامة العينة التي تشملها الاستطلاعات والاستبيانات. وتصدر المؤسسة -البريطانية التي تأسست عام 1996- مؤشرها بالتعاون مع «جامعة أوكسفورد» منذ عام 2020. وفي هذا العام غطى المؤشر 87 دولة، واحتلت المرتبة الأولى فيه الولايات المتحدة، تلتها ألمانيا، ثم المملكة المتحدة، ثم اليابان، فالصين، ثم فرنسا فكندا، ثم سويسرا، فالسويد ثم روسيا. وحلت الإمارات في المركز 18 عالميًا في التصنيف الإجمالي، والـ11 عالميًا في معيار التأثير العالمي، فيما كانت قد شكلت في مايو 2017، مجلس القوة الناعمة، الذي يتبع رئيس مجلس الوزراء، لرسم استراتيجية عامة للقوة الناعمة، وترسيخ الصورة الإيجابية للدولة على المستوى العالمي.
ويتكون مؤشر «فايينانس»، من عنصرين أساسيين؛ هما (القدرة على التأثير، ومجموعة مكونة من سبعة مرتكزات هي: التجارة والأعمال، الحوكمة، العلاقات الدولية، التراث والثقافة، التواصل والإعلام، التعليم والعلوم، الناس والقيم وثلاثة عناصر مساعدة)، بالإضافة إلى ثلاثة عناصر داعمة هي: (سمعة الدولة، ومدى معرفة الجمهور بها، ومدى نجاح الدولة في التعامل مع جائحة كورونا). وضمن محاولتها لوضع نفسها كمرجعية لمفهوم وممارسات القوة الناعمة؛ تبنت تعريفا خاصا بها، يواكب مستجدات العصر وتطورات الممارسات والأهداف والنماذج، يتلخص في (مدى قدرة الدولة في التأثير على تفضيلات وسلوك مختلف الأطراف في الساحة الدولية من دول ومنظمات وشركات وشعوب، عبر الجذب والإقناع، وليس الإرغام بالقوة).
وكانت دول الخليج قد صعدت في مؤشر القوة الناعمة في إصدار 2023، الذي شمل 121 دولة وتصدرت فيه الإمارات قائمة الدول العربية، ونجحت في دخول نادي الدول العشر الأولى الأكثر قدرة بهذا المعنى في التأثير على مستوى العالم. وجاءت «السعودية»، في المرتبة الثانية عربيًا، والـ19 عالميًا، تليها قطر في المرتبة 24 عالميًا، والكويت في المرتبة 34، وحلت سلطنة عُمان في المرتبة 46، والبحرين في المرتبة الـ50.
وفي إصدار 2024، الذي شمل 193 دولة، جاءت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الأولى، تليها بريطانيا، ثم الصين، واحتلت الإمارات المركز العاشر عالميًا، وتقدمت السعودية ثمانية مراكز منذ أول إصدار لتحتل المرتبة 18 عالميًا، وقطر 10 مراكز، منذ أول إصدار لتحتل المركز 21 عالميًا، فيما احتلت البحرين المرتبة 51 عالميًا، والكويت الـ37، وسلطنة عُمان التي كانت في المركز 49 عالميًا في 2022، غدت في المركز 46 عالميًا في 2023 والـ49 في 2024.
ومكنت الجهود التي تبذلها دول الخليج في توسيع علاقاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية مع دول العالم بشكل متوازن، في أن تحظى بقبول واسع كوسيط في العديد من النزاعات الدولية. بالإضافة إلى ذلك، فإن حضورها البارز في التجارة الدولية، والاستثمار العالمي، وحركة السياحة، قد ساهم بشكل كبير في صعودها على مؤشر القوة الناعمة؛ فكانت «الرياض»، قبلة لعدد من القمم الكبرى، كـ«القمة العربية الصينية»، و«القمة العربية الأمريكية»، و«القمة العربية الإسلامية»، وفازت بعرض استضافة كأس العالم لكرة القدم 2034، وتنظيم أكسبو2030، كما تعد لاعبًا على درجة عالية من الأهمية في قضية أمن الطاقة العالمي من خلال موقعها في مجموعة «أوبك بلس»، وقيادتها وضع عرض النفط بما يتناسب مع حالة السوق، وهو ما جعلها عضوا أساسيا في «مجموعة العشرين»، التي قدمت فيها العديد من المبادرات لخدمة العالم النامي، من أبرزها تأجيل سداد فوائد الديون المستحقة أثناء كوفيد-19، كما أهلها ذلك لأن تكون لاعبًا قويًا في مجموعة «البريكس»، كما توجد خمس شركات سعودية في قائمة أعلى الشركات قوة في الشرق الأوسط وهي: (أرامكو، إس تي سي، مصرف الراجحي، سابك، البنك الأهلي). وتعد رؤية السعودية 2030، محركا قويا لعناصر القوة الناعمة للمملكة، وفي الربع الأول لعام 2024 نقلت 127 شركة عالمية مقراتها الإقليمية إليها بزيادة بنسبة 477% عن 2023.
علاوة على ذلك، بدت السعودية ودول الخليج بمفاهيمها الثقافية المميزة لها، وأدائها الاقتصادي والسياسي، مؤهلة لدور كبير في «مبادرات السلام والأمن»، ونشير هنا إلى وساطة قطر الناجحة في الأزمة اللبنانية 2008، واستضافتها محادثات الولايات المتحدة وطالبان، ووساطة الكويت في أزمة البيت الخليجي 2017 - 2021، ووساطة السعودية في النزاع الفلسطيني الفلسطيني (اتفاق مكة)، ومحادثات جدة بين الفصائل السودانية المتحاربة، ووساطة الإمارات لعقد اتفاق السلام بين أثيوبيا واريتريا، وتبادل الأسرى بين أوكرانيا وروسيا، فيما تسعى دول الخليج من خلال جهود الوساطة التي تقوم بها إلى خلق توافق إقليمي يخدم حماية مصالحها الاقتصادية، وخطوط الإمداد، ونجاح استراتيجيات التنويع الاقتصادي.
وفيما تعد مساعدات التنمية من أهم مقومات القوة الناعمة، فإن نسبة مساعدات التنمية التي قدمتها دول الخليج للدول العربية تبلغ 97%، حيث بلغت قيمة المساعدات الخارجية المقدمة من الإمارات نحو 9.3 مليارات دولار في 3 سنوات (2020- 2022)، وحتى أبريل الماضي بلغ إجمالي مساعدات السعودية المقدمة عبر جهاتها المانحة للدول الأشد احتياجًا نحو 129 مليار دولار، وبلغ عدد المشاريع الإنمائية والإنسانية التي مولتها 6856 مشروعا، وعدد الدول المستفيدة من هذه المساعدات والمشروعات 169 دولة، فيما تعد أيضًا مساعدات التنمية نهجًا ثابتًا لدى الكويت وقطر.
وعلى مسار صعود قوتها الناعمة تنظم «البحرين»، سنويًا منذ عام 2004 «حوار المنامة»، الذي يعد من أهم الفعاليات الاستراتيجية كقمة للأمن الإقليمي، تناقش وتحلل أبرز القضايا والتطورات السياسية والدفاعية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط والعالم، فيما كان الحضور في نسخة 2023 نحو 450 شخصية، عبر وفود من 40 دولة تضم قادة سياسيين وعسكريين وأمنيين وأكاديميين وشخصيات رسمية وإعلاميين.
وفي سياق هذه الجهود أيضًا استضافت الإمارات «قمة المناخ 28»، قبل نهاية العام المنصرم، كما استضافت السعودية في أبريل الماضي «المنتدى الاقتصادي العالمي»، بمشاركة أكثر من 1000 شخص من قادة الدول وكبار المسؤولين والخبراء، والذي يعد منبرًا مهمًا للحوار العالمي وتشجيع التعاون من أجل التنمية. وفيما ارتبط اسم «الدوحة»، بواحدة من أهم جولات منظمة التجارة العالمية، فقد استضافت بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، واكسبو الدوحة 2023، والبطولة العالمية للألعاب المائية 2024.
على العموم، يعزز الصعود الخليجي في عناصر القوة الناعمة؛ التعاون الاقتصادي بين دول الخليج والقوى الاقتصادية الكبرى، مثل الصين، والهند، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، وتركيا لعقد اتفاقات تجارة حرة مع المنظومة الخليجية، فيما نجحت كوريا الجنوبية مؤخرًا في عقد مثل هذه الاتفاقات؛ ما يخدم سياسات التنويع الاقتصادي التي تنتهجها هذه الدول، ويعزز مناخ الاستثمار ويرفع تصنيفها الائتماني، كما أن التنسيق والتعاون بين دول المجموعة الخليجية، كما حدث بإطلاق التأشيرة الموحدة يساهم في توزيع المنافع المترتبة على هذه الاتفاقات فيما بينها، وقد دفعت عناصر القوة الناعمة دول الخليج، مثل الإمارات، إلى تبني استراتيجيات لدعم هذه العناصر، كما هو واضح في رؤاها المستقبلية.
ومع ذلك، مهما كانت نتائج القوة الناعمة ذات قيمة عالية، فإنها لا تكفي وحدها في عالم لا تزال فيه القوة الخشنة لها الصوت والتأثير الأكبر. وعليه، يكمن أساس الأمن الخليجي في تكامل القوتين معا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك