في الثاني من يوليو 2024 أوردت وسائل الإعلام خبر الزيارة التي قام بها الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي لتركيا ولقائه الرئيس التركي رجب طيب أردوجان وبحضور وزير الدفاع التركي يشار غولر، وقد جاءت تلك الزيارة ضمن خطوات متبادلة لتطوير العلاقات بين تركيا وبعض دول الخليج العربي، والتي تسارعت وتيرتها بين المسؤولين من بعض دول الخليج العربي ونظرائهم من تركيا خلال عامي 2022 و2023 ، وواقع الأمر أن تلك الزيارات تعكس عدة دلالات مهمة سواء في مضمونها أو توقيتها بما يتجاوز الحديث عن مجرد زيارات ثنائية ترتب اتفاقيات ،فمع أهمية الاتفاقيات الاقتصادية التي تم توقيعها بين الجانبين، فإن حرص تركيا ودول الخليج على تأسيس لجان استراتيجية عليا مشتركة يعني رغبتهما في مأسسة تلك العلاقات والحفاظ على ديمومتها بعيدًا عن أي توترات، ولم يكن ذلك توجهاً أحادياً من جانب بعض دول الخليج، ففي مارس 2024 تم إبرام اتفاقية بين تركيا ودول الخليج لبدء مفاوضات تجارة حرة بين الجانبين، وفي تصوري أن تلك الإجراءات جاءت ترجمة لواقع تلك العلاقات التي تسير بوتيرة متسارعة، فلا تزال تركيا مقصداً لملايين السائحين من دول الخليج العربي، وعلى صعيد مواز تشهد العلاقات السياسية تطوراً ملحوظاً من خلال انتظام انعقاد الحوار الاستراتيجي بين تركيا ودول الخليج والتي استضافت قطر الجولة السادسة منه في يونيو 2024، ناهيك عن مشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوجان في قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية الرابعة والأربعين في الدوحة عام 2023 والتي ألقى كلمة خلالها أكد فيها «تطور العلاقات التركية – الخليجية يوماً تلو الآخر وأن التبادل التجاري بين الجانبين بلغ 23 مليار دولار»، وبعيداً عن لغة الأرقام التي تعكس مؤشرات مهمة أيضاً، ففي تقديري أن تلك الشراكة في سبيلها نحو التطور حيث إن هناك إمكانية لتكامل التكنولوجيا مع رأس المال، فتركيا لديها خبرة مهمة في التكنولوجيا العسكرية ودول الخليج بما لديها من رؤوس أموال ركيزتان نحو التكامل في المجال العسكري، وخاصة أن هدف توطين الصناعات العسكرية أحد مضامين خطة التنمية المستدامة في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، بالإضافة إلى توافق الرؤى حول التحديات المشتركة. ولاشك أن ذلك التقارب سوف ينعكس على ثلاث قضايا مهمة أولها: تحقيق التوازن الإقليمي، فتركيا دولة إقليمية مهمة ولديها مقومات قوة أيضاً كون جيشها يصنف في المركز الثاني ضمن حلف شمال الأطلسي «الناتو» بعد الجيش الأمريكي، ولا يعني ذلك أن تطور تلك العلاقات يستهدف تحالفات، ولكن تأسيس شراكات استراتيجية في وقت تشهد فيه علاقات دول الخليج تحسناً ملحوظاً بشكل مواز مع إيران بما يعنيه ذلك من وجود مسارات إقليمية تعاونية ينهض عليها الأمن الإقليمي، وثانيها: تأثير تلك العلاقات على العديد من الملفات الإقليمية منها الأوضاع في سوريا والعراق، في ظل التحسن الملحوظ لكل من تركيا ودول الخليج مع هاتين الدولتين، وهو أمر مهم لجهة وجود رؤية متقاربة لبناء الوحدات المكونة للأمن الإقليمي مرة أخرى، وثالثها: التنسيق بين الجانبين في مناطق التواجد الاستراتيجي سواء في شرق المتوسط أو القرن الإفريقي وهما منطقتان تتلاقى فيهما مصالح الجانبين، بل إن تركيا وبعض دول الخليج العربي لديها قواعد عسكرية في منطقة القرن الإفريقي.
ومع أهمية ما سبق، فإنني لست من مؤيدي أصحاب التحليلات التي روجت لإمكانية أن تؤدي تركيا دور الوسيط بين دول الخليج والدول الغربية أو بالأحرى استثمار تلك العلاقات لصالح دول الخليج العربي لأسباب ثلاثة أولها: لبعض دول الخليج العربي علاقات مع حلف الناتو ضمن مبادرة اسطنبول التي أطلقها الحلف عام 2004 وتركيا أحد أعضاء الحلف في الوقت ذاته، وثانيها: أن علاقات دول الخليج العربي بالدول الغربية لها طابع استراتيجي حتى مع وجود تباينات في وجهات النظر حيال بعض القضايا إلا أن ذلك لم يبلغ حد التصادم والتأزم، وثالثها: أن تركيا ذاتها لديها خلافات وتباينات حتى مع بعض الدول الغربية الأعضاء في حلف الناتو.
ومن منظور استراتيجي، فإن تطور تلك العلاقات على هذا النحو منذ نهاية عام 2020 وحتى الآن توازياً مع المؤشرات الإيجابية بين دول الخليج العربي وإيران يعيد إلى الأذهان مقترح الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى خلال إحدى القمم العربية، حيث اقترح تأسيس رابطة دول الجوار العربي وتضم الدول العربية الأعضاء في الجامعة وتركيا وإيران وبعض الدول الإفريقية، وهو المقترح الذي تباينت مواقف الدول العربية بشأنه آنذاك، ولكن الأهم في تبريره لتقديم ذلك المقترح قال موسى «تتأسس الرابطة على سياسة جوار عربية تقوم على تطوير المصالح المشتركة والتنسيق الأمني في مجمل دول الرابطة» بما يعينه ذلك من أن التحديات المشتركة تحتم على دول الإقليم الواحد إيجاد هياكل مؤسسية للتعاون خلالها تجاوز ميراث الصراع والتنافس في ظل واقع إقليمي وعالمي سريع التحول.
ومع أهمية ما سبق من خطوات تقارب بين الجانبين والتي حتمها ما يمكن أن نطلق عليه «الاحتياج الاستراتيجي المتبادل»، فإن هناك مجالات مهمة لا تزال محل اهتمام من دول الخليج العربي ليس أقلها كيفية توظيف تركيا لمفهوم القوة الناعمة من خلال الأعمال الدرامية التي تستقطب ملايين المشاهدين في العالم العربي وهي تجربة تستحق الدراسة والاستفادة منها، وخاصة لدول الخليج كدول صغرى ومتوسطة تعد القوة الناعمة أداة مهمة، من ناحية ثانية نجد أن كلاً من دول الخليج وروسيا تشهد علاقاتهما تطوراً ملحوظاً بكل من الصين وروسيا وهو أمر مهم لجهة ضبط التنافس الدولي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
ومجمل القول أن تشابك المصالح على هذا النحو يعيد تأكيد حقيقة سبق وأن أشرت إليها في مقالات سابقة وهي في ظل حالة عدم اليقين بشأن تحولات النظام العالمي وزيادة حدة التهديدات الأمنية التي يجمعها عنوان كبير وهو إنهاء التكنولوجيا لمفهوم التسلح الكمي مع زيادة نشاط الجماعات المسلحة دون الدول، فإن التعاون والتنسيق الإقليمي أضحى ضرورة ملحة سواء بشكل مستمر في المجالات كافة أو عبر حوارات استراتيجية أم استحداث منتديات أخرى للتعاون، فجميعها سبل تقود إلى نتيجة واحدة هي أن تهديدات الأمن الإقليمي أضحت كلاً لا يتجزأ ولا سبيل لمواجهتها سوى بالتنسيق وتكامل الجهود التي تحتاج فقط إلى قرارات للدفع بها نحو الاستمرارية والمأسسة. وهناك صيغ عديدة لحوارات بين التنظيمات الإقليمية ودول جوارها قد تصلح بعضها أو كلها لعلاقة مستقبلية بين تركيا ودول الخليج العربي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك