خلال أسبوع انتفضت فرنسا ديمقراطيا، ونحت اليمين المتطرف جانبا، وربحت نفسها، وبالتأكيد ربحت أوروبا نفسها ايضا، ولا نبالغ ان قلنا إن الإنسانية بشكل عام قد ربحت، فعندما يهيمن اليمين المتطرف في أوروبا من حق البشرية ان تحبس أنفاسها، فالتاريخ علمنا ان أوروبا اليمينية المتطرفة قد تجر العالم إلى أجواء مشحونة وعنصرية، وربما إلى حرب تدمر الحياة البشرية. هذه المخاوف لها أسبابها فعندما حكمت القوى الفاشية المانيا وإيطاليا، في ثلاثينيات القرن العشرين لم يعتقد العالم في حينه ان هذا التطور سيجر العالم إلى حرب عالمية ثانية عام 1939.
أوروبا ربحت لان فرنسا بلد رئيسي ومؤثر فيها. فهي دولة كبرى ونتائج انتخاباتها تؤثر وتغير الموازين، ولكان بالفعل وجه أوروبا الذي عرفناه بعد الحرب العالمية الثانية سيتغير حتما، وتعود هذه القارة العجوز إلى وجهها العنصر والاستعماري الأكثر كحالة، وتكون سيئة لنفسها وللعالم. ان فشل اليمين المتطرف في الجولة الثانية قدم فرصة لكي تعيد أوروبا حساباتها وتقوم بتغيير بعض سياساتها، وان تركز أكثر على ثقافة الحوار والتسامح، وخاصة في أوساط الشباب الذين لا تمثل لهم ذاكرة الحرب العالمية البشعة الكثير، في أوروبا كما في العالم بشكل عام. لان جيل الشباب اقل ثقافة وإطلاع على التاريخ، فالعالم مع كل هذا التطور في تكنولوجيا المعلومات وسرعة تناقل وتبادل المعلومات احدثت ما يشبه الفوضى الفكرية، واحدثت فجوات في الذاكرة التي تراكم بطريق متقطعة ولا يستطيع معها الناس الاستفادة أكثر من عبر دروس التاريخ.
بغض النظر فإن الصحوة الفرنسية في الأسبوع الذي سبق الجولة الثانية تؤكد ان الإنسان الأوروبي لا يزال يصوت بمسؤولية عندما يكون الخطر داهما، الفيلسوف الفرنسي الوجودي جون بول سارتر وبعد حربين عالميتين شهدتهما أوروبا قال: «الحرية الفردية مسؤولية، والحرية بشكل عام مسؤولية، بمعنى ان الفرد الأوروبي يجب ان يمنع فوز الفاشية مرة أخرى».
على أي حال أثبتت فرنسا انها منحازة إلى ثقافتها التنويرية لا للتعصب والعنصرية. فالشعب الفرنسي أنقذ هوية فرنسا الثقافية التنويرية، وأنقذ هوية الاتحاد الأوروبي المنفتحة على الاخر، وهذه اراحت الجميع ما عدا فاشيي العالم الذين يصرون على سياسة القلاع والاسوار العالية، وعلى اعتبار الاخر عرقا أدنى.
الشعب الفلسطيني ربما اكثر من غيره يتابع الانتخابات في العالم، وخاصة في الدول الكبرى المؤثرة في السياسة الدولية، والفلسطيني يقيس الأمور بميزان الذهب، ويريد ان يرى قوى سياسية أكثر ميلا للعدل، واحترام القيم الإنسانية، املا بأن تدعم حقوقه وترفع عنه الظلم التاريخي المزمن، وهو يهتم بأوروبا أكثر لان شعوب هذه القارة ان استقيظوا، ونفضوا عن أنفسهم ارث تاريخهم الاستعماري، بالتأكيد حال الشرق الأوسط وفي فلسطين سوف يتبدل، فهذه القارة تتحمل مسؤولية الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني، من هنا فقد كانت فرحة الفلسطينيين بنتائج الجولة الثانية للانتخابات الفرنسية كبيرة واعطتهم املا بإمكانية انصافهم.
الشعب الفلسطيني لا يعادي أحدا ولا يعادي أيا من أطراف السياسة لا في أوروبا ولا غيرها وانما هو يقرأ ويسمع ويراقب المواقف، وعندما يشعر ان هناك من يناصب قضيته العداء من حقه ان يفرح أو يغضب لنتائج هذه الانتخابات أو تلك. من وجهة نظره فرنسا الان تمنحه املا أكثر، لان شبح اليمين المتطرف الذي يرتبط مع اليمين المتطرف في إسرائيل بعلاقات قوية قد ابتعد قليلا وللسنوات القادمة.
فوز اليسار الفرنسي، وان يأتي حزب الوسط، حزب ماكرون ثانيا وخسارة اليمين المتطرف هو امر مهم، صحيح ان أيا من الاطراف لا تمتلك الأغلبية المطلقة، ولكن النتائج قالت إن الشعب الفرنسي يرفض اليمين المتطرف، وان الشعب اختار اليسار والوسط واليمين التقليدي وجميعهم اقل ضررا بالنسبة للقضية الفلسطينية. ما يأمله الفلسطينيون هو ان تقود هذه النتائج إلى اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية، وعندها فقط يكون هذا البلد قد انتصر لفكره التنويري.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك