يروى أنه في إحدى الجامعات الأجنبية، دخل المحاضر على طلبة سنة أولى حقوق وفي المحاضرة الأولى وقبل أن يلقي التحية، شاهد في ركن المدرج فتاة سمراء، فسألها عن اسمها، فأجابت، ثم قال لها: اخرجي من المدرج فلا أريد أن أراك في هذا المكان مجددًا.
وفي وسط ذهول وصمت بقية الطلبة خرجت الطالبة بصمت، ودمعتها تجمدت في مقلتيها، فغادرت.
ثم قال المحاضر لنبدأ الآن، فتحدث وتحدث حوالي نصف ساعة، وفجأة توقف وقال: تُرى لماذا وضعت القوانين؟
قالت طالبة: حتى لا يقع أمر سيء في مجتمعنا،
قال المحاضر: لا
ثم أجاب طالب آخر: حتى نطبقها،
فأجاب المحاضر: لا
ثم أجاب طالب آخر: لكي يدفع الناس السيئين ثمن أفعالهم،
فقال المحاضر: لا
ثم صرخ الأستاذ: لماذا لا يستطيع أحد منكم الإجابة عن هذا السؤال؟
ثم رفعت إحدى الطالبات يديها وأجابت: لكي تسود العدالة.
فقال المحاضر: وأخيرًا، هذا هو الجواب، كي يسود العدل.
ثم قال المحاضر مرة أخرى: ولماذا تصلح العدالة؟
فأجاب أحد الطلبة: كي تحفظ حقوق الناس.
فقال الأستاذ: جيد، ماذا آخر؟
فأجاب آخر: كي تميز ما هو جيد مما هو سيئ.
فطلب المحاضر المزيد من الإجابات
فأجابت طالبة: لمكافأة من هو حسن السلوك.
وفي النهاية قال المحاضر: حسنُ، كل تلكم الإجابات جيدة، ولكن أجيبوا عن هذا السؤال؛ هل تصرفتُ بشكل جيد عندما طردتُ زميلتكم من المحاضرة؟
تردد الطلبة لحظات، ثم قال أحدهم: أعتقد يا أستاذ أنك ظلمتها.
فقال المحاضر: إذن يمكن القول إني ارتكبتُ ظلمًا في حق زميلتكم؟
فقالوا جميعًا: نعم.
حينئذ أمر المحاضر أحد الطلبة، للبحث عن تلك الزميلة وإعادتها إلى القاعة، وبالفعل عندما عادت الزميلة المطرودة وزميلها قال المحاضر: اتفقنا أن القرار الذي اتخذته نحو زميلتكم كان ظالمًا، ولكن لماذا لم يفعل أي أحد منكم أي شيء عندما اتخذتُ هذا القرار في حق زميلتكم؟ هل سكتم لأنها سمراء؟ ولماذا نريد القوانين والمساطر إن لم تكن لدينا الشجاعة لتنفيذها؟
سكت المحاضر برهة، ليقرأ كلماته على وجوه الطلبة، ثم قال: كل واحد منكم ملزم منذ اليوم أن يتدخل عندما يشاهد الظلم، كلكم لن تظلوا صامتين بعد الآن، عندما لا ندافع عن حقوقنا نفقد الكرامة، والكرامة ليست قابلة للتفاوض، وهذا هو درس اليوم.
ثم غادر.
وللأسف، هذا هو الذي يحدث اليوم في غزة مع دولة الاحتلال ودول الغرب والشرق.
فدولة الاحتلال تعربد في غزة، تقتل وتشرد وتطرد من غير محاسبة أو مساءلة من أي جهة، ليس ذلك فحسب بل كل هذا يتم بدعم منقطع النظير من دول الغرب والشرق، وحتى بقية الدول التي لا تدعمها بالسلاح والعتاد فإنها صامتة، وهذا الصمت في حد ذاته يُعد دعمًا لهذه العربدة.
واليوم بعد مضي حوالي تسعة أشهر من الحرب، ترى ماذا فعل جيش الاحتلال بقطاع غزة، هل كانت حربًا نزيهة؟ أم كانت حربًا فاسقة؟ هل فعلاً هو الجيش الأكثر أخلاقًا في العالم كما يدعي؟
هذا تقرير نشرته (CNN) العربية منذ حوالي ثلاثة أشهر تقول فيه:
خلفت العملية العسكرية الإسرائيلية دمارًا هائلاً في القطاع، ونتج عنها (33.175) شهيدًا و(75.886) مصابًا، وزادت من معاناة السكان بفعل الجوع والعطش الشديدين. واضطرار العديد من الفلسطينيين إلى اللجوء إلى المخيمات في الهواء الطلق، حيث يعانون من صعوبات في العثور على الغذاء والماء.
وبحسب تقرير منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في 5 أبريل 2024، فقد استشهد أكثر من 9.500 امرأة، و14.500 طفل. وأُجبر ما يزيد على حوالي 1.7 مليون شخص على النزوح داخليًا.
وتُظهر الأرقام تأثير الحرب على البنية التحتية والمجتمع في القطاع، حيث تم الإبلاغ عن تضرر 60% من المباني السكنية و80% من المنشآت التجارية. وفيما يتعلق بالأمن الغذائي، من المتوقع أن يواجه ما يزيد على مليون شخص مستويات كارثية من عدم الأمن الغذائي في المرحلة الخامسة.
وتزداد الأزمة الإنسانية تفاقمًا، حيث أعلنت وزارة الصحة في غزة في الأول من أبريل أن 28 طفلاً توفوا جوعًا وعطشًا. وفي تقديرات لليونيسف في ديسمبر 2023، قُدّر أن الآلاف من الأطفال خسروا إحدى أو كلتا قدميهم جراء الحروب.
كما أشارت تقارير صادرة عن البنك الدولي والأمم المتحدة، بدعم مالي من الاتحاد الأوروبي، إلى أن كلفة الضرر الذي لحق بالبنية التحتية الحيوية في غزة تقدر بنحو 18.5 مليار دولار. وهذا يعادل 97% من الناتج المحلي الإجمالي للمجتمع بالضفة الغربية وقطاع غزة في عام 2022.
أرقام وإحصاءات
إنسانية مخيفة
علمًا أن ما سنقوله غيض من فيض، إلا اننا سنحاول أن نأتي ببعض الإحصاءات من العديد من الإحصاءات المنشورة من خلال التقارير التي تتحدث عن هذه الحرب.
في 7 نوفمبر 2023 أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة أن 70%(2.2 مليون نسمة) من سكان القطاع باتوا نازحين قسرًا عن منازلهم.
قصف قطاع غزة – حتى نوفمبر 2023 – بألف طن من المتفجرات بمتوسط 82 طنًا لكل كيلومتر مربع.
اقتحام مجمع الشفاء الطبي؛ اقتحمت قوات الاحتلال مجمع الشفاء الطبي يوم 14 نوفمبر 2023 وحولته إلى ثكنة عسكرية بعد حصاره لأيام عدة واشتباك مع مقاتلين فلسطينيين في محيطه.
مستشفيات تخرج من الخدمة؛ أعلن الطاقم الطبي في المستشفى الإندونيسي في قطاع غزة يوم 24 أكتوبر 2023 أن الكهرباء قُطعت بشكل كامل عن هذا المستشفى، وهو ما يعني خروجه من الخدمة.
وفي 24 أكتوبر 2023 أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة (الانهيار التام) للمنظومة الصحية في كل مستشفيات القطاع.
نسف مباني جامعة الإسراء؛ نسفت قوات الاحتلال يوم 18 يناير 2024 مبنى جامعة الإسراء جنوبي مدينة غزة، إذ كانت تلك القوات قد عسكرت فيه لمدة 70 يومًا واستخدمته قاعدة عسكرية ومركز اعتقال، قبل أن تغادره وتفخخه ثم تنسفه.
اقتحام خان يونس؛ في 5 فبراير 2024 واصلت قوات الاحتلال توغلها في مدينة خان يونس وسط إطلاق نار وقصف مدفعي وغارات جوية عنيفة. كما واصلت نسف منازل مواطنين في أرجاء مختلفة شرقي وغربي خان يونس.
وفي 11 فبراير 2024 أعلن الهلال الأحمر الفلسطيني اقتحام قوات الاحتلال مستشفى الأمل بخان يونس، وأنها سرقت كافة مفاتيح مركبات الإسعاف والمركبات الإدارية وعطلت جميع المركبات لمنع الطاقم من تشغيلها في ظل الحصار الذي فرضه الجيش الإسرائيلي على المستشفى منذ أكثر من 20 يومًا.
وفي يوم 13 فبراير 2024 حاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي، مستشفى ناصر الطبي بمدينة خان يونس، وهدم سوره، وقصف محيطه، وطلب من النازحين داخله إخلاءه، وحوله لثكنة عسكرية.
مجزرة الطحين؛ استشهد أكثر من 112 فلسطينيًا وأصيب ما يقارب 800 آخرين في مجزرة جديدة ارتكبتها قوات الاحتلال سميت (مجزرة الطحين)، وذلك نهاية فبراير 2024، وحدثت المجزرة حين استهدفت قوات الاحتلال ليلاً مجموعة كبيرة من الفلسطينيين أثناء تجمعهم للحصول على مساعدات عند دوار النابلسي.
حصار مستشفى الشفاء؛ هاجم جيش الاحتلال الإسرائيلي مجمع الشفاء الطبي غربي مدينة غزة للمرة الثانية منذ أكتوبر 2023 فجر يوم 18 مارس 2024، حيث جرت اشتباكات عنيفة في محيطه بين قوات خاصة صهيونية ومقاومين فلسطينيين. وتوغلت آليات الاحتلال بشكل مفاجئ تحت غطاء ناري كثيف وحاصرت المجمع الطبي الأكبر في القطاع، وذلك في ظل قصف استهدف أجزاء منه.
ومرة أخرى نقول إن هذه الإحصائيات نقلت نقلاً من مصادرها من غير أي تحريف، فماعدا الاختصار بقصد تقليل المساحة المكتوبة حتى لا يقول أحد إننا نبالغ، علمًا أن هناك الكثير من الإحصائيات لم تنقل بسبب ضيق المساحة.
حسنا، دعونا نعود إلى السؤال الأول: لماذا وضعت القوانين؟
فإن كنا نؤمن بالعدالة، دعونا نعيد السؤال بطريقة علمية ومنطقية؛ من يوقف جيش الاحتلال بعد كل هذا الدمار الذي لحق بالقطاع؟ أين العدالة والقوانين؟ من يطبقها ومن ينفذها؟ ألا يوجد في هذه الكرة الأرضية من يقول الحق؟ أم أن كل هذه القوانين والأنظمة وضعت من أجل التغاضي عنها وتجاوزها عندما يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين الذين أصابهم الوهن؟
والغريب في الموضوع، إن من يدعي أنه يحقق العدالة هو الشريك الأكبر الذي يسهم بصورة كبيرة في كل هذا الدمار.
والأغرب، أننا كشعوب عربية مازالنا نؤمن بالغرب والشرق، وأنهم هم الذين سيحققون العدالة والمساواة، وأنه يجب أن نهرب من عروبتنا وإسلامنا حتى نرتمي في أحضانهم، فصدروهم مليئة بالعطف والحب، ولكننا نحن الذي لا نفهم، وهذا لسان حال الكثير من الشعوب العربية، ألا نستفيق؟
وسؤال أخير: إن كان هذا هو تصرف الجيش الأكثر أخلاقًا في العالم،كما يزعم نتنياهو، ترى ماذا تفعل بقية الجيوش حينما تقاتل؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك