فيما يتولى القطاع الخاص في دول الخليج معظم النشاط الاقتصادي غير النفطي، أخذت الحكومات تعول عليه في مسار تنويع هذا النشاط، وتحرير اقتصاداتها من الاعتماد المفرط على النفط وصادراته، كما جعلته شريكًا استراتيجيًا في أنشطة كانت تتولاها كالصحة والتعليم، ومن واقع المسؤولية الاجتماعية لهذا القطاع أصبح يقوم بأنشطة ملموسة في المجال الاجتماعي، كرعاية الأيتام والمعوقين والمسنين ورعاية الأنشطة الرياضية، فقد كان لهذا القطاع ولا يزال قوة دافعة للتعاون الاقتصادي الخليجي، وتنظر شركاته في نشاطها إلى السوق الخليجي على اتساعه، ولهذا فهو الذي دفع بدخول دول المجلس إلى أولى مراحل التعاون الاقتصادي ممثلة في التجارة الحرة، والدفع بالتجارة البينية بين دول المجلس، ثم الانتقال إلى مرحلة الاتحاد الجمركي، وقرارات المجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي، بشأن الإسراع في استكمال مراحل التعاون الاقتصادي، وصولًا إلى الوحدة الاقتصادية الكاملة.
وقد سبق تأسيس الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة الخليجي، تأسيس مجلس التعاون الخليجي نفسه، وعمل منذ تأسيسه في 1979 على تمثيل المصالح الاقتصادية لمؤسسات وأفراد القطاع الخاص، ومنذ قيامه عمل على المساهمة الفعلية في دعم أداء الاقتصاد الخليجي، وتيسير التجارة البينية بين دوله، وتيسير انتقال رؤوس الأموال بدون عوائق، وتفعيل المواطنة الاقتصادية الخليجية، وتنظيم ودعم الشركات والمشروعات الاقتصادية المشتركة، باعتبارها نواة حقيقية للعمل الخليجي الاقتصادي المشترك، وتكامل رؤوس الأموال الخليجية في تطوير وتنمية الأنشطة الاقتصادية، وقد تمثلت رؤية هذا الاتحاد منذ قيامه في تعزيز وتسريع خطى التكامل الاقتصادي بين دول المجلس وصولًا إلى وحدتها الاقتصادية، وهذه الرؤية منصوص عليها كما هي في ميثاق مجلس التعاون الخليجي، فيما تمثلت رسالة الاتحاد في العمل على توفير البيئة المناسبة لتطور أداء القطاع الخاص الخليجي، وتعزيز قدراته التنافسية، ليكون قاطرة التنمية في اقتصادات دول المجلس، والأداة النافعة نحو تكاملها ووحدتها، فيما تمثلت أهدافه في تفعيل دور القطاع الخاص في مسيرة التكامل الاقتصادي بين دول المجلس، للوصول إلى الوحدة الاقتصادية الكاملة، وتعزيز دور الاتحاد في صياغة السياسات والتوجهات الاقتصادية، بما يؤدي إلى إحداث توافق بين هذه السياسات والتوجهات، والمتطلبات العملية للقطاع الخاص في ضوء المستجدات الاقتصادية العالمية الحالية والمستقبلة، وتعميق درجة اندماج القطاع الخاص الخليجي في الاقتصاد العالمي، والمساهمة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي الخليجي، وتمثيله عربيًا وإقليميًا ودوليًا، وفي مرحلة تنسيق السياسات، وإحداث التوافق، وتلبية متطلبات القطاع الخاص، نشأت مجالس الأعمال التي تضم الجانبين الخاص والحكومي، بين كل دولة من دول المجلس والدول الأخرى الأعضاء فيه.
وفي بدايات تأسيس مجلس التعاون الخليجي، برز دور القطاع الخاص من خلال الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة الخليجي في إبرام الاتفاقية الاقتصادية الموحدة لدول مجلس التعاون الخليجي، حيث وقع قادة دول المجلس بالرياض في الدورة الثانية للمجلس الاتفاقية الاقتصادية والموحدة في نوفمبر 1981 (أي بعد شهور قليلة من قيام المجلس في مايو 1981)، التي مثلت إطارا شاملا ومحددا ضمن برنامج زمني للتكامل الاقتصادي، فرسمت الاتفاقية خطة العمل الاقتصادي المشترك، وشملت البرامج التكاملية: تحقيق المواطنة الاقتصادية لمواطني دول المجلس، وتحقيق التكامل الاقتصادي بين دول المجلس وفق خطوات متدرجة، بدءًا بإقامة منطقة التجارة الحرة ثم الاتحاد الجمركي، ثم استكمال السوق الخليجية المشتركة، وانتهاءً بالاتحاد النقدي والاقتصادي، وإقامة المؤسسات المشترك اللازمة لذلك، وتقريب وتوحيد الأنظمة والسياسات والاستراتيجيات في المجالات الاقتصادية والمالية والتجارية، وربط البنى الأساسية لدول المجلس، لاسيما في مجال المواصلات والكهرباء والغاز، وتشجيع إقامة المشروعات المشتركة.
ومواكبة للتطورات الاقتصادية المحلية والدولية، وتعزيز العمل الخليجي المشترك، فيما يتعلق بإنشاء الاتحاد الجمركي والسوق الخليجية المشتركة والاتحاد النقدي، قامت دول المجلس باستحداث نسخة جديدة من الاتفاقية الاقتصادية، وأقرها قادة دول المجلس في قمة مسقط في ديسمبر 2001، وحين إصدار هذه النسخة كان التكامل الاقتصادي الخليجي قد قطع شوطًا كبيرًا، فقد قامت التجارة الحرة منذ مارس 1983، واستمرت مرحلتها نحو 20 عاما إلى نهاية 2002، حيث حل محلها الاتحاد الجمركي لدول المجلس، وخلال فترة منطقة التجارة الحرة (1983 – 2002) ارتفع حجم التجارة البينية من أقل من 6 مليارات دولار في عام 1983 إلى 15.6 مليار دولار في عام 2002، وتميزت منطقة التجارة الحرة بشكل رئيسي بإعفاء منتجات دول المجلس الصناعية والزراعية ومنتجات الثروات الطبيعية من الرسوم الجمركية، شريطة اصطحابها شهادة منشأ من الجهة الحكومية المختصة في الدول المصدرة، ويدل ارتفاع حجم التجارة البينية على ما وصلت إليه الاقتصادات الخليجية من نمو في الإنتاج، وتمايز بين كل دولة خليجية وأخرى، يسمح بقيام هذه التجارة، ويرجع ذلك أساسًا إلى دور القطاع الخاص القائم بالنشاط الاقتصادي، وتوجه نشاطه إلى السوق الخليجي وليس فقط لسوقه المحلي، ونتيجة لدوره في هذا المجال دفع القطاع الخاص إلى عقد اتفاقات تجارة حرة مع دول تمثل الواردات منها مدخلات لنشاطه الإنتاجي، فعقد مجلس التعاون الخليجي اتفاقات تجارة حرة مع سنغافورة، ومع رابطة التجارة الحرة الأوروبية، ومع باكستان، ومع كوريا الجنوبية، وقيد الإجراء اتفاقات للتجارة الحرة مع تركيا، والصين، والهند، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة.
وفي هذا الاتحاد أيضًا نشط الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة الخليجي في الدفع إلى الانتقال من مرحلة التجارة الحرة إلى مرحلة الاتحاد الجمركي، وفي دورته الـ23 التي عقدت بالدوحة في ديسمبر 2002 قرر المجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي مباركة قيام الاتحاد الجمركي، وبداية تطبيقه اعتبارًا من يناير 2003، ويعد الاتحاد الجمركي هو المنطقة التي يستبعد فيها الرسوم الجمركية واللوائح والإجراءات المقيدة للتجارة بين دول الاتحاد، وتطبق فيها رسوم جمركية ولوائح تجارية وجمركية موحدة تجاه العالم الخارجي، وتتبنى هذه المنطقة نقطة دخول واحدة يتم عندها تحصل الرسوم الجمركية الموحدة، ثم تنتقل السلع إلى كل دول المجلس دون رسوم جمركية أو لوائح، وتعامل السلع المنتجة داخل دول المجلس معاملة السلع الوطنية، وتتحدد الرسوم الجمركية الموحدة على السلع الواردة عند نقطة الدخول الواحدة بنسبة 5%، كما أدى العمل بنظام الاتحاد الجمركي إلى ارتفاع حجم التجارة البينية بمعدل سنوي بلغ 24% خلال الفترة من 2003 – 2013، فيما تجاوز هذا الحجم 127 مليار دولار بعد ذلك بـ 10 سنوات، ولاتزال هناك آفاق واسعة لزيادة هذه التجارة، مع التقدم في إنجاز خطوات التعاون الاقتصادي.
ويسهم التشاور المستمر بين القطاع الخاص الخليجي ممثلًا في غرف التجارة والصناعة والزراعة، ووزراء التجارة والصناعة في تذليل عقبات نمو هذه التجارة، كما حدث في الاجتماع التشاوري 11 الذي عقد في الدوحة في مايو الماضي، والذي تم فيه مناقشة مبادرة التكامل بين الاستراتيجيات الخليجية في قطاعات الصناعة والتعدين والنقل والخدمات اللوجستية، التي تهدف إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وتزيد من تعظيم الاستفادة من الصورة الذهنية الإيجابية عن المنتجات الخليجية، إضافة إلى دعم زيادة المشاريع المشتركة بين القطاع الخاص الخليجي، وكذلك القطاع العام، واستغلال المناطق الاقتصادية الخاصة البالغة أكثر من 60 منطقة بدول المجلس.
وقد أسفر التنسيق بين القطاع الخاص والحكومات في دفع مسيرة التعاون الاقتصادي عن أن إجمالي المواصفات القياسية واللوائح الفنية الموحدة لدول المجلس قد بلغ أكثر من 26 ألفا، وقيام 29 مصرفا خليجيا بتأسيس فروع لها في دول المجلس، فيما بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر البيني لدول المجلس نحو 61 مليار دولار حتى نهاية 2022، وحتى هذا العام بلغ عدد المواطنين الخليجيين الذين يعملون في دول المجلس غير دولتهم 33 ألف، واستفاد أكثر من 32 ألف مواطن خليجيي من الحماية التأمينية في الدول الأعضاء غير دولتهم، وصدرت إلى 59 ألف مواطن خليجي رخصا لمزاولة الأنشطة الاقتصادية والاستثمارات والحرف في دول غير دولتهم، وتمكن 558 ألف مواطن خليجي من تملكه الأسهم في 669 شركة مساهمة في الدول الأعضاء غير دولتهم، برأس مال يبلغ نحو 372 مليون دولار، وتمكن أكثر من 29 مليون مواطن خليجي خلال عام واحد (2022) من التنقل بين الدول الأعضاء في المجلس بكل يسر وسهولة، كما تمكن أكثر من 159 ألف مواطن خليجي من تملك عقارات في الدول الأعضاء غير دولتهم خلال السنوات العشر الماضية، ويدرس 40 ألف طالب وطالبة من الدول الأعضاء في المدارس الحكومية بدول المجلس الأخرى، واستفاد أكثر من 362 ألف مواطن خليجي من الخدمات الطبية الحكومية في الدول الأعضاء الأخرى، فيما أطلقت هيئة والمعلومات والحكومة الإلكترونية في مملكة البحرين مسح خليجي مشترك يستهدف المؤسسات والشركات الخليجية العاملة في مملكة البحرين، ويقيس أثر القرارات الاقتصادية الصادرة من المجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي عليها، كما يذكر أن الاقتصادات الخليجية تستأثر بنحو 10% من إجمالي الاستثمارات الواردة إلى دول المجلس، وتسهم الشركات العائلية في منطقة الخليج بنحو 60% من الناتج المحلي غير النفطي فيه، كما توظف أكثر 80% من القوى العاملة، وتحتل موقع الصدارة بين أقوى 100 شركة في العالم العربي، استنادًا إلى قوتها المالية، وقدرتها على الاستثمار في مختلف المجالات، يذكر أن 98% من الشركات الخليجية هي شركات عائلية، وتسهم في الاقتصاد السعودي مثلًا أكبر اقتصاد خليجي بما يتراوح بين 20 -30%.
يبرز إذن دور القطاع الخاص ليس فقط على المستوى المحلي من حيث جهود التنويع الاقتصادي وزيادة حجم الاقتصاد غير النفطي ودوره الاجتماعي، ولكن أيضًا على المستوى الخليجي من حيث الدفع بخطوات التكامل والتعاون الاقتصادي، والذي يصب في مصلحته ومصلحة الاقتصادات الخليجية، ولم يكن غريبًا إذن أن تتجه سياسات دول الخليج وفقًا لرؤاها الاقتصادية المستقبلية إلى قصر دور الحكومات في المجال الاقتصادي على الدور تنظيمي، وترك النشاط الاقتصادي خاصة غير النفطي للقطاع الخاص.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك