تحقيقًا لأشهر توقعات منظمي استطلاعات الرأي والمعلقين السياسيين، حقق حزب العمال بقيادة السير كير ستارمر فوزًا ساحقًا في الانتخابات العامة بالمملكة المتحدة التي أجريت في الرابع من يوليو 2024، حكومة المحافظين برئاسة ريشي سوناك، مُنهيًا أربعة عشر عامًا متتالية من حكم المحافظين للحكومة البريطانية.
قرب نهاية عام 2023، أشارت بيانات الاستطلاع إلى أن الانتخابات البريطانية المقبلة، التي كان من المقرر أن يدعو إليها سوناك قبل نهاية عام 2024 بسبب التقديم المبكر لإجراء الانتخابات، ستكون بمثابة انتصار ساحق لحزب المعارضة الرئيسي، وهو ما تحقق فعليًا. ومع احتساب نتائج جميع الدوائر الانتخابية تقريبًا، ومن بين 650 مقعدًا في مجلس العموم، سيحتفظ حزب العمال بما لا يقل عن 412 مقعدًا، وهو ما يزيد كثيرًا عن الـ 326 مقعدًا اللازمة لتحقيق الأغلبية؛ في تكرار لمشهد الانتصارات الكبيرة التي حققها رئيسا الوزراء كليمنت أتلي في عام 1945، وتوني بلير في عام 1997.
وعلى الطرف الآخر من المعادلة، مُني المحافظون بواحدة من أسوأ هزائمهم الانتخابية على الإطلاق، حيث خسروا ما لا يقل عن 250 مقعدًا، بما في ذلك العديد من مقاعد دوائر ينتمي إليها كبار الوزراء والأصوات المؤثرة داخل يمين السياسة البريطانية. تفاقمت صراعات سوناك وحزبه ما بين فضائح متعددة وسياسات متعثرة، بسبب صعود حزب «الإصلاح» في المملكة المتحدة، بقيادة «نايجل فاراج»، الذي ساعد في تفتيت أصوات اليمين في الدوائر الانتخابية البريطانية؛ وهو ما أسهم في فوز حزب العمال على تحقيق نجاحه.
على الرغم من هيمنة الاهتمامات المحلية المشتركة على الحملة مثل الاقتصاد والرعاية الصحية، بيد أن السياسة الخارجية للحكومة المرتقبة لحكومة حزب العمال تجاه الحرب المستمرة في غزة كانت مصدر انقسام داخل الجناح اليساري في السياسة البريطانية. وخلال الانتخابات، تجلى ذلك في المرشحين المستقلين في المناطق ذات النسب العالية من الناخبين المسلمين في منافسة مباشرة مع المرشحين لحزب العمال، مما أدى إلى انتخاب العديد منهم لعضوية البرلمان، وهو ما أزعج أعضاء الحكومة. وبما أن ستارمر والوزراء الجدد يجب أن يتولوا مسؤولية تعامل بريطانيا على الحرب، فقد أصر المراقبون على أنه حري بحكومة حزب العمال أن تأخذ في الاعتبار بشكل أكبر وجهات النظر القوية للعديد من الناخبين، بشأن الحاجة إلى تسهيل إنهاء القصف الإسرائيلي على غزة، وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
وعلى الرغم من عدم زيادة إجمالي حصة حزب العمال من الأصوات الشعبية بين الناخبين البريطانيين فإنه وببضع المقارنة بالهزيمة الثقيلة التي تعرض لها أمام المحافظين في عام 2019، فقد حصل ستارمر على أكبر أغلبية برلمانية في البلاد منذ 25 عاما. وعلى الرغم من هذا النصر الهائل من حيث الدوائر الانتخابية التي فاز بها منافسوه، فقد قيم مالكولم تشالمرز، نائب المدير العام للمعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI)، أن هذا النجاح لا يمت لمهارات ستارمر القيادية بصلة بقدر ما يتعلق بكيفية قيام قدرة المعارضة «على الاستفادة من المزاج العام السائد، بأنه بعد 14 عامًا من حكم المحافظين حان وقت التغيير في بريطانيا. ويدعم هذا التقييم مدى تغير بيانات الاستطلاع بشأن مواقف الناخبين تجاه الأحزاب وسياساتها بشكل طفيف في الأشهر التي سبقت الحملة الانتخابية وأثناءها.
ونظرًا إلى قوة أغلبية حزب العمال في مجلس العموم، ادعى «روب بيتشيتا» من شبكة «سي إن إن» أن «ستارمر» سيكون «رئيس وزراء قويًا للغاية» من حيث التشريع الذي يمكن سنه الآن، على الرغم من تأكيده على أن هذا الفوز الانتخابي هو «نصر هش»، ومع توضيح تفاصيل البيانات الانتخابية أن هذه النتيجة كانت في المقام الأول نتيجة «غضب الناخبين تجاه المحافظين»؛ وليس «لجاذبية عرض حزب العمال».
أرجعت هيلين لويس، من مجلة «ذي أتلانتيك»، انهيار المحافظين الذين نالوا أقل من 24% من الأصوات الشعبية - بانخفاض قدره 20% عن الانتخابات الأخيرة - إلى حملة «كارثية»، شابتها بشكل لا رجعة فيه العديد من الزلات، مثل مغادرة سوناك احتفالات الذكرى الثمانين لعمليات إنزال نورماندي في وقت مبكر لإجراء مقابلة تلفزيونية، وتبين مراهنة العديد من مسؤولي حزب المحافظين في وقت سابق على التاريخ الذي سيتم فيه الدعوة للانتخابات، وقد استهدف الديمقراطيين الليبراليين الوسطيين استراتيجيًا مقاعد المحافظين الضعيفة في جنوب إنجلترا وحزب الإصلاح المذكور آنفًا، وزاد من الغموض حصولهم على 14.3% من الأصوات الشعبية، مُتسببًا في تشتيت أصوات اليمين؛ وهو ما سبَّب ليلة محرجة للحكومة البريطانية المنتهية ولايتها، على الرغم من استقالة سوناك بالفعل من منصب زعيم الحزب، وفقًا لـ«بيشيتا»، فإن حجم انهيار المحافظين يضعهم ليس فقط في صفوف المعارضة ولكن أيضًا إلى أعتاب فقدان أي تأثير.
على الرغم من تقييم «تشالمرز» للمسائل السياسة الخارجية والدفاعية حيث ظهرت بالكاد خلال الحملة الانتخابية في المملكة المتحدة، في ضوء إعلان كل من حزب العمال والمحافظين عن شعارات دولية مماثلة؛ فإن الاستثناء الكبير تمثّل في كيفية خلق السياسات الداخلية لحزب المعارضة الرئيسي انقسامات شديدة أنتجت منافسات شرسة في العديد من الدوائر الانتخابية، مع وجود كتلة بارزة من الناخبين المسلمين.
وقد أشارت «آنا جروس» بصحيفة «فايننشال تايمز» أن حزب العمال، على الرغم من انتصاراته العديدة في مختلف أنحاء المملكة المتحدة خسر أو ناضل من أجل شغل مقاعد متعددة. كان الحدث الأكثر شهرة وتأثيرًا على الحكومة الجديدة في الدائرة الانتخابية «ليستر ساوث»، حيث خسر «جوناثان أشوورث»، الذي كان من المتوقع أن ينضم لحكومة «كير ستارمر» زعيم حزب العمال، مقعده أمام المستقل «شوكت آدم»، بفارق أقل من ألف صوت على يد آدم الذي أكد على أهمية القضية الفلسطينية خلال فترة ولايته. وربما يكون هذا الانتصار جراء قيادته لحملته الانتخابية في منطقة يشكل المسلمون فيها 35% من الناخبين.
وبالمثل في برمنغهام، خسر النائب «خالد محمود»، الذي كان عضوًا في مجلس العموم طوال الأعوام الثلاثة والعشرين الماضية، بفارق 500 صوتًا أمام المرشح المستقل المؤيد للفلسطينيين «أيوب خان»، ومن خلال القيام بذلك، أشار «جوش هاليداي» من صحيفة الجارديان إلى خسارة محمود بفارق مذهل بلغت 15317 صوتا. وأفاد موقع «ميدل إيست آي» البريطاني أنه تم تقويض حملة محمود لإعادة انتخابه بشدة، لأنه واجه طوفانًا من الانتقادات بين أفراد المجتمع المسلم بسبب جداله مع المصلين في أحد المساجد حول موقف حزب العمال من غزة، حيث تم تصويره وهو يقول لهؤلاء المصلين في نبرة من التحدي «اصمتوا واستمعوا».
ورغم الانتصارات التي حققها مرشحون مستقلون مناصرون للفلسطينيين في كل من مدن بلاكبيرن، وديوسبوري، وباتل، وإيسلينجتون نورث – والدائرة الأخيرة فاز بها أبرز المستقلين البرلمانيين، «جيريمي كوربين»، كانت هناك العديد من الدوائر الانتخابية، حيث كان هؤلاء المرشحون قريبين جدًا من الفوز. وهذا يشمل خسارة السياسي البريطاني «جورج غالاوي» مقعده في دائرة روتشديل الانتخابية في شمال إنكلترا، بعد أشهر قليلة من فوزه بها في الانتخابات الفرعية في فبراير 2024 أمام مرشح حزب العمال بفارق ضئيل. وتلك الخسارة هيمنت عليها أيضًا سياسة حزب العمال تجاه حرب غزة، وفي دائرة مقعد «تشينجفورد وودفورد جرين» الذي فاز به زعيم المحافظين السابق «السير إيان دنكان سميث»، كان هناك انقسام في التصويت أثارته العضوة المسلمة «فايزة شاهين» التي فضلت الترشح كمستقلة بعدما قالت إن حزب العمال منعها من الترشح في الانتخابات عن الدائرة المقعد ذاته، بسبب موقفها المناهض تجاه حرب غزة، وهو ما حرم حزب العمال من تحقيق نجاح آخر.
ولتفسير هذه الديناميكية، يمكن الاشارة إلى أنه في حين أكد هاليداي أن الحرب في غزة لم تكن الشغل الانتخابي الوحيد الناخبين المسلمين في بريطانيا، إلا أنه لا يوجد شك في أنه وسط حالة من اللامبالاة التي دفعت نسبة المشاركة إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من قرن من الزمان، بدا الصراع في غزة أحد العوامل الدافعة لمشاركة الجزء الأكبر من الناخبين.
ومع تأكيد جروس أن النظام الانتخابي في المملكة المتحدة يجعل من النادر للغاية أن يفوز مرشحون مستقلون بمقاعد في مجلس العموم، من دون أن تجعلهم مواقفهم القوية حيال قضايا محلية في المقدمة والصدارة بالنسبة للناخبين، فإن البرلمانية العمالية البارزة «جيس فيليبس»، التي تمكنت بنفسها من التغلب على منافسها، الذي يعتبر مرشحًا مستقلًا مؤيدًا للفلسطينيين، بفارق ضئيل أقرت بأن موقف قيادة حزب العمال حيال حرب غزة ووقف إطلاق النار كان مسالة جوهرية يتعين على نواب حزبها مواجهة نتائج هذا الموقف مستقبلًا، وهو الذي أثر على عدد ناخبيها.
ومع تنصيب «ستارمر» الآن في مقر رئاسة الوزراء في داونينج ستريت، وتشكيل حكومة من قبل حزب العمال للمرة الأولى منذ عام 2010، أصبحت المسائل المتعلقة بصياغة السياسة الخارجية في المقدمة الآن، بما في ذلك ملامح موقف بريطانيا المحتمل تجاه إسرائيل والحرب في غزة. ورغم أن «تشالمرز» أصر على أن «أولوية السياسة الخارجية القصوى للحكومة الجديدة يجب أن تكون العمل على مساعدة أوكرانيا على الاستمرار والصمود في مواجهة «فلاديمير بوتين»، فإنه على الجانب الأخر فقد تتأثر تلك الأولوية؛ حيث من المحتمل الآن أن تتصاعد حرب غزة قريبًا إلى صراع إقليمي أوسع نطاقاً، لأن إسرائيل تستعد لشن هجوم واسع النطاق ضد حزب الله في لبنان، وعلق «تشالمرز» قائلاً: إن هذا الاحتمال يعتبر أحد الاختبارات المبكرة لتقييم قدرة الحكومة الجديدة على اجتياز أزمة سريعة التطور.
وأضاف «تشالمرز» أنه، باعتبار المملكة عضوًا دائمًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهي دولة لها قوات عسكرية منتشرة في محيط الشرق الأوسط، وبما أنها تمتلك «شراكات إقليمية قوية»، فإن المملكة المتحدة في عهد «ستارمر» من المتوقع أن تلعب دورًا مهمًا في الجهود المبذولة للتوسط في خلق تسوية سلمية، للمساعدة في منع المزيد من التصعيد إلى حرب إقليمية أوسع نطاقًا.
ومع شغل وزير خارجية حزب العمال البريطاني المعارض الرئيسي في حكومة الظل «ديفيد لامي»، فمن المهم الإشارة إلى أنه على عكس نظيره المحافظ المنتهية ولايته اللورد كاميرون، من حيث أن لامي دعم علنًا استقلال المحكمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بالإصدار المحتمل لأوامر الاعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يواف جالانت.
وعلى الرغم من أن ستارمر دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة، وتعهد بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلا أنه وكبار مستشاريه سيتعرضون بلا شك لضغوط داخلية مكثفة داخل حزب العمال للمضي قدمًا تجاه محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها العديدة لحقوق الإنسان والقانون الدولي.
وفي هذا السياق، حذر المستشار السياسي السابق «لتوني بلير» «جون ماكترنان»، من أن ستارمر وبقية قيادة حزب العمال بحاجة إلى أخذ الأصوات المفقودة بشأن غزة على محمل الجد، بعد خسارة عدد من المقاعد في منطقة ميدلاندز وشمال بريطانيا، والمسماة بـ«الجدار الأحمر»، التي لطالما صوتت تقليديًا لحزب العمال، الذي يعتبر اللون التقليدي له هو الأحمر. وتحولت العديد من مقاعد الجدار الأحمر إلى اللون الأزرق، وهو اللون التقليدي لحزب المحافظين في عام 2019، إذ دعم الناخبون بوريس جونسون من أجل إنجاز خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ورفع مستوى البلدات والمدن المهملة بعد رفض زعيم حزب العمال في ذلك الوقت «جيريمي كوربين» هذا الخروج.
على الرغم من أن الانتخابات العامة في المملكة المتحدة لعام 2024 قد منحت حزب العمال انتصار ساحق وأغلبية برلمانية هائلة تمكنه من تفعيل الإصلاح الاقتصادي الواعد في بريطانيا، فإن قوة المعارضة لموقفه من حرب غزة هي في الواقع دليل على مدى الفشل في اتخاذ قرار بهذا الصدد. وبالنهاية يمكن أن تكون الإجراءات الأخلاقية والقانونية اللازمة لوقف الحرب مثيرة للانقسام، ومضرة للغاية لحزب العمال على المدى الطويل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك