في الثلاثين من يونيو 2024 شهدت مبادرة اسطنبول التي أطلقها حلف شمال الأطلسي «الناتو» للتعاون مع دول الشرق الأوسط على أن تبدأ بدول الخليج العربي، مرور عشرين عاماً على إطلاقها في قمة الحلف بتركيا في 2004 ، وقد انضمت إلى تلك المبادرة أربع من دول الخليج العربي هي البحرين والإمارات وقطر والكويت، بينما لم تنضم كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان إلى تلك المبادرة، ولكن قبل تقييم مضامين تلك المبادرة تجاه أمن الخليج العربي، لا بد من التعريف بها، حيث أثارت الكثير من الجدل، البعض وصفها بأنها وجود جديد للناتو في المنطقة والبعض الآخر وصفها بأنها معاهدة أمنية، وواقع الأمر أن المبادرة بعيدة تماماً عن هذين التوصيفين، فالأمر ببساطة هو أن حلف الناتو بدأ بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة، والذي كان أداة الدول الغربية لإدارة تلك الحرب مع الاتحاد السوفيتي آنذاك، في تأسيس عدة شراكات مع دول تقع في مناطق رأى أنها تحتوي على مصالح حيوية لدوله الأعضاء وكان لمنطقة الشرق الأوسط نصيب منها من خلال مبادرتين الأولى، الحوار المتوسطي 1994 بين الحلف وسبع دول من حوض البحر المتوسط واستهدف التعاون في العديد من المجالات الأمنية من خلال اجتماعات منتظمة على مستويات مختلفة والهدف كان هو البدء بالأمن للتوصل لتفاهمات سياسية، وعلى العكس كانت مبادرة اسطنبول2004 التي تضمنت ستة مجالات عامة بها مجالات فرعية عديدة واستهدفت المبادرة التشاور والتنسيق السياسي وصولاً إلى التعاون الأمني أي أن المبادرتين تسيران في مسارين متقابلين ولا تعارض بينهما، ولقد كنت متابعاً دقيقاً لكافة المواقف والتصريحات من الناتو ودول الخليج العربي بشأن تطلعات كل منهما من تلك المبادرة، وواقع الأمر أنها عكست رؤية الحلف لما يمكن أن يقدمه لأمن الخليج العربي والذي رأى أن ذلك يتكامل مع المبادرات الأخرى ولا يتعارض معها ، ولكن كانت هناك اختلافات بين تلك المبادرة وغيرها من مبادرات على سبيل المثال استراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه منطقة الخليج، فالناتو لا يتعامل بشكل جماعي مع دول الخليج أي الكل مقابل الكل، ولكن وفقاً لصيغة 32+1 أي أن الفوائد التي تحصل عليها دولة ما لا يجوز أن تستفيد منها دولة أخرى، كما أن الحلف لا يقدم دعماً أمنياً وفقاً لصيغة معاهدة ملزمة ولكن لكل دولة حرية الاختيار فيما يناسبها من مجالات للتعاون الأمني مع الحلف، وأخيراً فإن الحلف لن يتدخل للدفاع عن أي من تلك الدول حال مواجهة اعتداء لسبب بسيط وهو أن المادة الخامسة من الميثاق المنشئ للحلف عام 1949 تنص وبوضوح على أن ذلك يحدث فقط حال تعرض أي من دوله الأعضاء للاعتداء وليس الدول الشريكة ومنها دول مبادرة اسطنبول، كما أن المبادرة لا تؤهل أيًّا من تلك الدول للحصول على عضوية الحلف لأن الحلف محدد بدول تنتمي إلى منطقة جغرافية وهي أمريكا الشمالية وأوروبا.
وربما يقول قائل في ظل تلك الأسس للشراكة: ما هي استفادة دول الخليج العربي من الحلف؟ أو بالأحرى ما الذي حققته مبادرة اسطنبول بعد مرور عشرين عاماً؟ وواقع الأمر أن مسؤولي الحلف قد أشاروا بوضوح إلى أهداف المبادرة ومضامينها وأسس عملها فهي ليست إطاراً تنسيقياً بين منظمة ترى أن منطقة الخليج العربي تقع ضمن محور اهتمامها، وأن تحقيق الأمن والاستقرار فيها يعد متطلباً مهماً لدول الحلف التي واجهت تحديات خلال أزمات إقليمية مختلفة ليس أقلها تهديدا أمن الطاقة، أما دول الخليج العربي فهي تحتاج أيضاً إلى شراكات أمنية ضمن خياراتها بما يعني التقاء مصالح الطرفين، ولكن للاقتراب بشكل أكبر مما تحقق فإن توقيع العديد من الاتفاقيات بشأن تبادل المعلومات ومواقف دول الحلف الداعمة لأمن الخليج العربي خلال الأزمات الإقليمية وإتاحة الفرصة للمدنيين والعسكريين من دول المبادرة للتدريب في المؤسسات العسكرية التعليمية للحلف جميعها كانت مجالات مهمة للتعاون، وتم تنفيذ تلك الأنشطة من خلال برامج الشراكة والتعاون الفردي بين الحلف وكل دولة من دول المبادرة على حدة، بل إن الحلف وسعياً للمزيد من توطيد الشراكة الأمنية مع دول الخليج العربي فقد تم افتتاح المركز الإقليمي للناتو ومبادرة اسطنبول في الكويت عام 2017 والذي يقدم دورات متخصصة للمدنيين والعسكريين من الدول الأربع في موضوعات منها الأمن البحري وأمن البنى التحتية للطاقة والأمن السيبراني وإدارة الأزمات وجميعها قضايا تهم دول الخليج العربي.
ومع أهمية المجالات السابقة، فإن عدسة المحللين العسكريين ربما لا تجد الكثير فيما قدمه الناتو لأمن الخليج العربي، ولكن الأمور لا يمكن قراءتها بهذا المنطق، وهذا يعيدنا إلى ماهية الناتو مجدداً، فالحلف هو المنظمة العسكرية التي تمثل المعسكر الغربي الذي خرج منتصراً من حقبة الحرب الباردة، وقوات الناتو مجتمعة تفوق أي قوة أخرى في العالم وخاصة التقليدية، ربما تكون لدى أطراف أخرى تفوقاً نوويا، لكن ليس بالضرورة أن نرى علم الحلف مرفوعاً في الأزمات الإقليمية لأسباب يحرص عليها الناتو ذاته وهي عدم خلق رأي عام معادٍ لسياساته، وخاصة أنه حدد منذ البداية مبدأ مهماً وهو «نساعد الدول الشريكة لتساعد نفسها»، ولكن لا بد من الأخذ في الاعتبار أن الدول الكبرى في الحلف هي من تدخلت لحماية ناقلات النفط خلال الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات ثم حرب تحرير الكويت، صحيح أن الولايات المتحدة هي من قادت تلك الجهود لكن دعم بعض دول الحلف كان واضحاً، من ناحية ثانية فإن مواقف الحلف للمساهمة في الجهود الأخرى منها دعم التحالف الدولي لمحاربة داعش، فضلاً عن الانضمام إلى الجهود الدولية للتصدي لمخاطر القرصنة قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي جميعها مؤشرات مهمة على إسهامات الحلف الأمنية.
ومع أهمية ما سبق، فلا شك أن تجديد تلك الشراكات يعد أمراً مهماً للطرفين، فالمناخ الأمني الذي أطلقت فيه المبادرة يختلف كلياً عما هو عليه الآن، وهو ما حدا بالحلف لإصدار مفهوم أمني لدول الجنوب عموماً من بينها دول الخليج العربي في مايو 2024 وهي الوثيقة التي سوف تكون على جدول أعمال قمة الحلف في واشنطن الشهر الحالي، صحيح أنها ليست موجهة إلى دول الخليج العربي مباشرة، لكنها مراجعة استراتيجية لسياسات الحلف تجاه جبهة مهمة وبها العديد من التوصيات ولكن الأمر المهم هو الأولويات الأمنية لدول الخليج العربي وهي التكنولوجيا العسكرية وتهديدات الأمن البحري ومواجهة نشاط الجماعات المسلحة دون الدول، وفي تقديري أنها متطلبات لتطوير مبادرة اسطنبول لتجاوز فكرة القيمة المضافة للأمن إلى تحقيق الأمن بين شريكين تتطلب مصالحهما استمرار تلك الشراكة.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك