أدى التطور السريع لقدرات الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة إلى تزايد الوعي بالإمكانات الإيجابية الهائلة والمخاطر الناجمة عن استخدامه غير المنظم؛ مما حفز الجهود الدولية لتنظيم استخدامه على نطاق واسع. واستضافت المملكة المتحدة، أواخر عام 2023، القمة العالمية لسلامة الذكاء الاصطناعي، وقامت 28 دولة -بعد التشاور مع صناع السياسات والخبراء الفنيين وممثلي الشركات العاملة على تطوير هذه التقنيات- بالاتفاق على تنفيذ قدر أكبر من الرقابة. وفي أعقابها، أشاد ماريانو كويلار، من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، بنجاحها في تحقيق سبق دبلوماسي كبير، نحو مسار للحد من المخاطر وتأمين أكبر فائدة من هذه التكنولوجيا سريعة التطور.
وفي حين أن الجهود الدولية تعزز الحوار حول ما يُعرف بـدبلوماسية الذكاء الاصطناعي، فإن تأثير هذه التكنولوجيا على العمليات الدبلوماسية، سواء من قبل المفاوضين أو قادة العالم، لا يزال موضوعًا يستحق الاهتمام. وبما أن الوصول إليه أصبح متاحا، ومن المتوقع أن يتجاوز العدد العالمي لمستخدميه الـ700 مليون بنهاية العقد الحالي، فقد استعانت به كذلك الوكالات الحكومية ووزارات الخارجية في أداء المهام الدبلوماسية الأولية والبسيطة والمتكررة، مثل تجميع البيانات، وكتابة الرسائل، والمساعدة في الجدولة بأقصى قدر من الكفاءة عبر تقنياته التوليدية التي تحاكي السلوكيات والأنماط البشرية، والتي أصبحت أكثر تقدمًا.
ومع ذلك، فقد حذر جيروم دوبري، من مركز ألبرت هيرشمان للديمقراطية، من مخاطر دمج الذكاء الاصطناعي في الدبلوماسية، وما يحمله من إمكانية تعرض جوهر الممارسة الدبلوماسية للخطر، مقارنة بما تحلت به من سرية عبر قرون.
وفي تقرير بعنوان وكلاء الذكاء الاصطناعي في الدبلوماسية.. تعزيز الاستقرار أم الفوضى؟ أشار جيرالد مكماهون من كلية هارفارد كينيدي إلى أن الذكاء الاصطناعي قد غير بالفعل من قدرة الدول على شن الحروب، ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح كيف ستُستخدم تقنياته في مجالات الدبلوماسية وفن الحكم. فمن ناحية، رأى أن قدرته على توفير المعلومات في الوقت الفعلي، وإنشاء نماذج بيانات توضح النتائج المحتملة للقرارات الرئيسية، يمكن أن تولد مشهدًا حذرًا ومحسوبًا من الإجراءات التي يمكن التنبؤ بها، والتي من شأنها أن تجعل النظام الدولي أكثر استقرارًا. ومن ناحية أخرى، حذر من أن الإمكانات الجامحة له يمكن أن تفتح الباب أمام الفوضى، وتحفز القادة على اتخاذ قرارات لا يمكن التنبؤ بها في الأزمات عالية المخاطر، مع نية متعمدة لاستغلال الخوارزمية، التي تعمل عليها هذه الأنظمة كوسيلة لإبقاء الخصوم الجيوسياسيين في حالة من عدم التوازن.
من جانبه، أوضح جيمس توبين، من مكتبة مجلس اللوردات، أنه على الرغم من عدم وجود تعريف واحد متفق عليه لما يشمله مصطلح الذكاء الاصطناعي؛ إلا أنه يوجد ضمن مصطلحاته الواسعة أنظمة كمبيوتر متقدمة قادرة على أداء المهام التي تتطلب عادةً ذكاءً بشريًا. وتتراوح هذه المهام من البسيطة، مثل تجميع قدر كبير من البيانات، إلى التعرف على الكلام، وأعمال الترجمة، والإدراك البصري، وحتى القدرة على اتخاذ القرار. ومن خلال استخدام كم هائل من البيانات التي تستند إليها عملياته، يمكن برمجة أنظمته لتعلم كيفية توقع الأحداث المستقبلية بناءً على السوابق الماضية، سواء تضمن ذلك مسارات السيارات ذاتية القيادة، أو تسديد المعاملات المصرفية المحددة سلفًا.
وبالفعل، لعب الذكاء الاصطناعي دورًا مهمًا في الشؤون الدولية. ففي المجال الأمني، يشير مكماهون إلى أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، تُعتبر أول ساحة معركة حقيقية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، كما يعكس استخدام قوات الاحتلال الإسرائيلية لتقنياته في تدمير غزة، قضايا متزايدة تتعلق بشرعية وحدود استخدامه. وعليه، فمن المحتمل أن توفر هذه الصراعات الجارية نظرة سريعة فقط على ما ستكون عليه العمليات القتالية المستقبلية مع اعتماده في مجموعة متنوعة من الفنون والتطبيقات العسكرية.
وفي المقابل، فإن اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال الدبلوماسي، يبدو أكثر محدودية. وأوضح مكماهون، أن تقنياته التوليدية المُلمة بالسلوكيات البشرية، تتجلى في مساعد افتراضي يتمتع بالقدرة على أداء كل شيء، بدءًا من كتابة رسائل البريد الإلكتروني، إلى جدولة الاجتماعات، وحجوزات السفر، وبالتالي زيادة الكفاءة والفعالية للمستخدم في واجبات أخرى.
وتم بالفعل التحقق من جودة إنجاز مثل هذه العمليات. ففي منتدى عُقد في فبراير2023، تحت رعاية صندوق مارشال الألماني، للولايات المتحدة، تحدث مفوض الخارجية الأمريكية لشؤون الفضاء الإلكتروني والسياسة الرقمية، ناثانيال فيك، عن أن البيانات، والإحاطات الإعلامية التي أعدها برنامج الدردشة الآلي المزود بتقنية الذكاء الاصطناعي شات جي بي تي، قريبة بدرجة كافية مما قد يقوله المتحدث المعني بتلك المهمة. وأوضح أندرو مور، المدير العام للذكاء الاصطناعي السحابي وحلول الصناعة في منصة جوجل كلاود، أنه مع تحسن النماذج اللغوية، سوف تتمكن هذه التقنية من تلبية مهام البحث وتلخيص المعلومات بسرعة أكبر من فريق من البشر، وبالتالي إمداد الدبلوماسيين بشكل أفضل بالبيانات اللازمة قبل الدخول في أية مفاوضات جدية.
وعلى الرغم من أن مكماهون، أقر بأن هناك انجذابا واضحا لزيادة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي من قبل الدبلوماسيين، وموظفي الخدمة المدنية، ووزارات الخارجية، إلا أنه حذر من أنه من الضروري النظر بجدية أكبر في التأثير طويل المدى لهذه التقنيات على فن ممارسة الحكم.
وبالإشارة إلى استخدام تطبيقاته الراهنة لإنشاء صور رمزية، بهدف إعادة صياغة العديد من الذكريات والقصص القديمة عن أشخاص فارقوا الحياة بناءً على المعلومات المتاحة -بما في ذلك الوسائط والتسجيلات الصوتية والأعمال والمواد المكتوبة عنهم- رأى مكماهون، أن هذه التطبيقات يمكن أن تكون ذات جدوى في خلق فرص للتفاوض على صفقات معقدة، أو حل النزاعات عالية المخاطر، من خلال مساعدة المسؤولين على التعرف على طباع نظرائهم من الخصوم قبل الاجتماع بهم شخصيًا. وتسمح البصمة الرقمية -التي توصف بأنها أي شيء يتعلق بك أو بما تنشره عبر الإنترنت، والخاصة بالقادة والسفراء وغيرهم من المسؤولين عبر الإنترنت، ووسائل الإعلام المختلفة- بإنشاء نسخ مُفصلة لأمثالهم الافتراضيين بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وأضاف مكماهون، أنه من خلال التطوير الإضافي للتقنيات، فإنه يمكنها أيضًا توفير إحساس موثوق برؤى الخصم، والسماح لمستخدميها بمعرفة الاستجابات والتحركات المحتملة، وردود الفعل المضادة لهؤلاء الخصوم، مشيرا إلى أن العالم النظري للذكاء الاصطناعي من الممكن أن يؤدي الى تجسيد صور رمزية لزعماء دوليين ووزراء خارجية آخرين، وبالتالي زيادة التفاهم والحد من حالة عدم اليقين المتعلقة بالمسائل الدبلوماسية الحساسة، وبالتالي الدخول في عصر جديد من الشفافية والاستقرار على حد وصفه.
لكن على الجانب الآخر، يهدد الاستخدام الموسع لهذه الأنظمة طبيعة العمل الدبلوماسي بحالة من التذبذب وعدم الاستقرار. وتقع عمليات التزييف، والتضليل المعلوماتي في قلب تلك المخاوف والتهديدات. كما أن امتلاك أنظمة الذكاء الاصطناعي، قدرات إنتاجية هائلة، بالإضافة إلى كونها لا تخضع لأي قواعد سلوك، أو قيود أخلاقية هي أيضًا في حد ذاتها عامل خطورة بالغ الأهمية، حيث يُنظر إليها على أنها تتفوق بشكل شامل على عملية صنع القرار البشري في البيئات والأوساط بالغة الأهمية والخطورة، كما هو الحال في سوق الأوراق المالية، وأساليب محاكاة المعارك العسكرية للطائرات المقاتلة، فضلا عن أن المفاوضات الدقيقة سريعة الوتيرة، تتفوق عملية صنع القرار -التي تعتمد على تحليل البيانات عبر أنظمة الكمبيوتر- بشكل لا يمكن مقارنته بالنتائج الأكثر ترجيحًا التي قد يتوصل إليها البشر فعليا.
علاوة على ذلك، أوضح مكماهون، أن استخدام الذكاء الاصطناعي كان ناجحًا في الاختبارات التي قادها طيارون مقاتلون متمرسون بالولايات المتحدة؛ حيث إن إبداع مثل هذه الأنظمة في تصور التحركات المتوقعة في المعارك القتالية المعقدة، قد يكون غرضها تحقيق الأهداف الوطنية، من خلال أساليب غير تقليدية، يمكن أن تؤدي بسرعة إلى ضعف قدرة أي محلل بشري على فهم حجم وملامح تفوق عمليات صنع القرارات المستقبلية والتنبؤ بها والناتجة عن تلك التقنيات.
وبالتالي، ففي حين رأى دوبري، أن استخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات الدبلوماسية البسيطة، أمر مقبول لصانعي السياسات؛ لأنه تحكمها إجراءات واضحة ومستقرة، فإن الدبلوماسية التي تُمارس حيال المبعوثين الأجانب تعد الأكثر أهمية، حيث إنها فن يعتمد على المعرفة والذكاء والخبرة والإبداع؛ ولا يمكن لهذه التقنيات أن تفهم حقًا تداعيات ما تنتجه من قرارات، ولا يمكن السماح لها بأن تحل محل الدبلوماسيين، والسفراء كعناصر فاعلة في فن إدارة الحكم. وأدرك مكماهون، أيضًا أن استخدامها المتزايد في الدبلوماسية، يمكن أن يقوض نظريات العلاقات الدولية، التي يغلب عليها العقلانية، التي لطالما دعمت الحلول المعتدلة الواقعية على مدى نصف القرن الماضي.
يضاف إلى هذه الشكوك، الاحتمالات الحقيقية المتمثلة في قيام الجهات الفاعلة الخبيثة باستخدام الذكاء الاصطناعي، لتشويه نوايا ونتائج تلك التقنيات عمدا، عبر تضخيم أدائها ودورها في المفاوضات للتخلص من منافسيها، بينما يخفون طموحاتهم العدائية الحقيقية.
وفي هذا الصدد، وافق مكماهون، على أن التطوير المستمر للتطبيقات الأكثر تقدمًا، يمكن أن يكون له تأثير في سعي الحكومات إلى تعزيز قدرتها على إخفاء نواياها، وتحقيق عنصر المفاجأة، في سلوكياتها التخريبية والخطيرة.
وبالإضافة إلى ذلك، شبه دوبري، تطبيق أنظمة الذكاء الاصطناعي التي طورتها الشركات لتوجيه المحادثات الثنائية، والمتعددة الأطراف من قبل الدول الأجنبية، بأنه أشبه بجلب أصحاب المصلحة والجهات الخبيثة غير الخاضعين للرقابة إلى دائرة الاهتمام والتأثير على تلك المحادثات، وهو أمر ينذر بالخطر سواء بالنسبة إلى الهجمات الإلكترونية والتسريبات.
على العموم، بينما تواصل الحكومات تعزيز تدابيرها الوقائية بشأن الاستخدام غير المنظم للذكاء الاصطناعي في مجالات الاقتصاد، الأمن، الرعاية الصحية، التعليم وغيرها، يتم الاعتراف بأهمية دور هذه التقنيات في المجال الدبلوماسي على المدى الطويل في بعض العمليات؛ لكن على المستويات العليا، قد يكون الوضع مختلفا.
وكما أوضح مكماهون، فإن طبيعة العلاقات الدولية نفسها قد تتغير قريبا؛ حيث لم تعد هذه التقنيات تقتصر على تفسير مناقشات القادة المشاركين في المفاوضات، بل تشمل أيضا الصور الرمزية الرقمية لقادة العالم، التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك