يقول العالم الموسوعي الراحل عبدالوهاب المسيري: «الصهيونية حركة قامت باقتلاع مئات الألوف من اليهود من أوطانهم، ونقلتهم إلى أرض معادية داخل مجتمعات تُكن لهم البغض. لذا، لجأت الصهيونية إلى العقيدة اليهودية لتحل مشكلة المعنى للمادة البشرية المنقولة».
فدولة الاحتلال قامت على الإحلال والتبديل والتهجير والاستيطان، عندما أدخلت الصهيونية على اليهودية فكرة جديدة على التاريخ اليهودي، وهي القومية اليهودية، وقامت باقتلاع اليهود من مجتمعاتهم التي نبتوا فيها بشكل طبيعي، إلى أرض لها سكانها وتاريخهم وثقافتهم، كما انتزعتهم من لغاتهم التي كانوا يعيشون بها إلى اللغة العبرية التي كانت قد اندثرت معالمها منذ القرن الأول الميلادي، إضافة إلى أن فكرة إقامة وطن قومي في فلسطين بالأساس تواجه معارضة من المتدينين، الذين يؤمنون بأن شتات اليهود إرادة إلهية لا يجوز مخالفتها، ومن ثم يرفضون أن يكون لليهود دولة تجمعهم.
ومن أجل هذه العوامل الصعبة ارتدت الصهيونية عباءة اليهودية، وجمعت اليهود على الفكرة المركزية الدينية وهي أرض الميعاد، وفكرة أخرى محفزة وهي أرض اللبن والعسل، أي خيرات فلسطين والمستقبل الواعد للمهاجرين اليهود في رغد العيش.
الوجود الإسرائيلي في فلسطين مرتبط بالكثافة السكانية اليهودية لأن قوميتهم المزعومة بالأساس قومية بلا أرض، ومن ثم كان أشد ما يؤرق الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هو خطر الهجرة العكسية، التي تزداد خطورتها في الأجيال الحالية التي لم تشهد الكيان في طور التكوين، ولم تتشبع بالأفكار الصهيونية في مهدها، فهي أجيال كل ما يهمها رفاهية العيش والأمان والاستقرار، ولذلك يهرع المستوطنون إلى الهجرة مع نشوب الأزمات.
وتعد المقاومة الفلسطينية أبرز أسباب هجرة الصهاينة من فلسطين إلى بلاد المنشأ في أوروبا وغيرها، وجاءت معركة طوفان الأقصى التي انطلقت منذ أكثر من ثمانية أشهر، لتعزز من مخاوف الاحتلال أمام هذا الخطر الوجودي الذي يتهدده، حيث زادت الهجرة العكسية بشكل حاد، بعد إخلاء المستوطنات حول غلاف غزة من المستوطنين، واستهداف صواريخ المقاومة المدن الإسرائيلية بما فيها تل أبيب.
في نهاية العام قبل الماضي وصل عدد الإسرائيليين الذين غادروا فلسطين المحتلة إلى 900 ألف، وبعد طوفان الأقصى هاجر مئات الآلاف، ففي الساعات الأولى للمعركة هاجر 140 ألفا، ثم ارتفع العدد إلى حوالي ربع مليون مهاجر، وأخذ العدد في الزيادة، وذلك في مجتمع لا يتعدى سكانه اليهود سبعة ملايين بعد استثناء المواطنين العرب في مدن الاحتلال.
يعقد الأمر لدى الاحتلال أن هناك مئات الآلاف من الشباب الذين كانوا قد غادروا خلال طوفان الأقصى، مطلوبون للتجنيد ويرفضون العودة، رغم الحاجة الماسة إليهم بسبب تصاعد أعداد قتلى ومصابي الجيش الإسرائيلي في الحرب على غزة.
لم تؤثر معركة طوفان الأقصى على الكيان الإسرائيلي من جهة الهجرة العكسية فحسب، بل وقفت حجر عثرة أمام الدعايات الإسرائيلية التي ترغب اليهود بدول العالم للقدوم إلى دولة الاحتلال، وبذلك فقدت حكومة الاحتلال رافدًا مهمًا لتعويض الهجرة العكسية وتجنب الخطر الديموغرافي الناشئ بسبب تزايد مواليد الشعب الفلسطيني خلافًا للإسرائيليين.
مع طول أمد المعركة، يتناقص عدد الإسرائيليين ما بين قتلى ومصابين في الحروب، ومغادرين بالهجرات العكسية، ويترتب عليه زيادة اعتماد الجيش الإسرائيلي على القوات الاحتياطية، وهو ما يؤثر على الاقتصاد الإسرائيلي بشكل قوي.
المعارك لا يألم لها أهل غزة فحسب، بل عدوها الإسرائيلي كذلك يألم، ومع استمرار الصمود من الشعب والمقاومة، تزداد مخاوف الاحتلال من هذا التهديد الوجودي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
{ كاتبة من الأردن
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك