شهدت السنوات الأخيرة تزايدا في الاستثمارات الخليجية في إفريقيا، خاصة من الإمارات والسعودية، وذلك بدافع رؤاها المستقبلية التي تركز على التصنيع وحاجتها إلى المعادن، وتعزيز الأمن الغذائي الخليجي في أعقاب الحرب الأوكرانية وتأثيرها على تدفق الحبوب الغذائية، إضافة إلى استفادة المستثمرين من الفرص التي تقدمها القارة سواء في مشروعات الطاقة، أو البنية التحتية أو الاستثمار العقاري أو المشروعات السياحية أو غيرها، في حين قامت العديد من الدول الإفريقية بتطوير تشريعاتها ونظمها لتكون أكثر ملاءمة للمستثمرين، وإزالة الكثير من المعوقات التي كانت تحد من تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى إفريقيا.
وفي نوفمبر الماضي شهدت العاصمة السعودية «الرياض»، فعاليات «المؤتمر الاقتصادي السعودي العربي الإفريقي»، بمشاركة قادة وصناع قرار ومسؤولين وقادة مال وأعمال واستثمار في القطاعين العام والخاص ومنظمات دولية ومراكز فكر، وتناولت جلساته التعاون في مجال الطاقة، والاستثمار في المستقبل، والأمن الغذائي، وقدرات الشباب كأهم مكون في رأس المال البشري، والتعاون في قطاع التعدين، والسياحة، والتنمية المستدامة، والدور المحوري لمؤسسات وبنوك وصناديق التنمية السعودية والعربية.
وعلى هامش المؤتمر تم توقيع اتفاقات مع عدد من الدول الإفريقية لتنفيذ مشروعات تنموية بقيمة أكثر من ملياري ريال سعودي (533 مليون دولار)، كما شهد أيضا توقيع أكثر من 50 اتفاقية تعاون مشترك بين القطاعات الحكومية والخاصة السعودية والعربية والإفريقية، وأعلنت «مجموعة التنسيق العربية»، تخصيص 50 مليار دولار لدعم التنمية في الدول الإفريقية. وفي محور «الاستثمار في المستقبل» في المؤتمر كشف وزير الاستثمار السعودي عن حجم الاستثمارات السعودية المتراكمة في إفريقيا قبل هذا المؤتمر والبالغة نحو 75 مليار دولار، فيما تعد الزراعة من أكثر وجهات استثمار الشركات الخاصة السعودية، وأن بلاده مقبلة على استثمارات كبيرة في السيارات الكهربائية التي تحتاج إليها هذه الأسواق، وأن شركة الخطوط السعودية ستزيد رحلاتها إلى القارة، فيما تمتلك الأخيرة العديد من الفرص والإمكانات في جميع المجالات وفي مختلف مناطقها.
وفيما كان حجم التجارة السعودي - الإفريقي قد بلغ 139 مليار دولار في السنوات الخمس حتى 2022، فإنه تأكيدًا لتصاعد الاهتمام الخليجي بإفريقيا؛ تبنت المملكة خلال عضويتها في «مجموعة العشرين»، انضمام «الاتحاد الإفريقي»، إلى عضوية هذه المجموعة شأنه شأن الاتحاد الأوروبي، ومبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين المستحقة أثناء جائحة كورونا. وإيمانًا منها بأهمية حضور إفريقيا في جميع المحافل الدولية، دعمت «الرياض»، استحداث مقعد إضافي للقارة في المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، وفي حين كانت قد دأبت على عقد شراكات مهمة مع الكيانات الإفريقية- بغية التوسع في قطاعات الطاقة والتعدين والزراعة، حتى غدت إفريقيا شريكًا تجاريا مهما ووجهة استثمارية رئيسية- فقد أطلقت «المملكة»، برنامج تيسير التجارة في الخدمات بينها وبين دول القارة في إطار التعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، كما يقوم «الصندوق السعودي للتنمية»، بدور مهم في تمويل البنية التحتية في عدد من الدول الإفريقية، شملت طرقا وسدودا ومستشفيات ومدارس، ودعم ما يزيد على 400 مشروع.
وفي «القمة السعودية الإفريقية»، بالرياض في نوفمبر الماضي -التي عقدت بعد المؤتمر- أعلن ولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان»، أن بلاده تتطلع إلى ضخ استثمارات جديدة في جميع القطاعات بالقارة بما يزيد على 25 مليار دولار، وتأمين تمويل بمقدار 10 مليارات دولار من الصادرات، وتقديم تمويل إضافي بقيمة 5 مليارات دولار حتى 2030، ودعم مجالات التجارة والتكامل، لتطوير علاقات الشراكة مع دول القارة، إضافة إلى «مبادرة خادم الحرمين الشريفين الإنمائية في إفريقيا»، بتوفير تمويل مشروعات وبرامج إنمائية بقيمة تتجاوز مليار دولار على مدى 10 سنوات، حيث قال في كلمته إن المملكة قدمت أكثر من 45 مليار دولار لدعم المشاريع التنموية في 54 دولة إفريقية، كما بلغت مساعدات «مركز الملك سلمان للإغاثة»، أكثر من 450 مليون دولار لـ46 دولة إفريقية. ويُذكر أنه لمأسسة العلاقات السعودية الإفريقية هناك 16 لجنة مشتركة ومجلسا تنسيقا، و7 مجالس أعمال، وأكثر من 250 اتفاقية تعاون في جميع المجالات.
ومن المعلوم أن المؤتمر -السابق ذكره- كان محطة لتسليط الأضواء على توجه الخليج للاستثمار في إفريقيا والذي أخذ في التزايد حتى تجاوز خلال العِقد الماضي أكثر من 100 مليار دولار، أو نحو 30% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة لدول الخليج في الخارج. ووفقًا لـ«وحدة أبحاث الإيكونوميست» البريطانية، فإن إجمالي الاستثمارات الخليجية في إفريقيا والتي تم إعلانها بلغت 60 مليار دولار لعام 2022، و53 مليار دولار لعام 2023، وهي أرقام تفوق استثمارات آسيا، وأمريكا الشمالية وأوروبا الغربية في إفريقيا، فالاستثمارات الصينية بلغت 35,5 مليار دولار في 2023، والاستثمارات الأوروبية 38 مليار دولار، والأمريكية 10 مليارات دولار.
واتجهت «الاستثمارات الخليجية»، لقطاعات الوقود الأحفوري، والتعدين، والزراعة، والبنية التحتية للنقل، والخدمات اللوجستية، والطاقة المتجددة، والبنية التحتية الرقمية، والتصنيع، والخدمات المالية، وتصاحب مع هذا النمو في الاستثمارات الخليجية نمو التجارة المتبادلة التي حققت معدل 8% سنويًا في السنوات العشر حتى 2022، وبلغت 154 مليار دولار في 2022، وهو رقم يفوق حجم التجارة الإفريقية الأمريكية (74 مليار دولار)، والتجارة الإفريقية الهندية (99 مليار دولار)، لكنه يقل عن حجم التجارة الإفريقية الصينية (289 مليار دولار)، والتجارة الإفريقية الأوروبية (244 مليار دولار).
وفيما يشكل «النفط، والغاز»، أهم الصادرات الخليجية لإفريقيا، فإن «المعادن»، تشكل أهم الصادرات الإفريقية للخليج، مع نمو ملحوظ للتجارة خارج هذه القطاعات التقليدية، ويتجه مستثمرو الخليج -فضلاً عن إقامة مشروعات جديدة- إلى الاستحواذ على حصص في مشاريع قائمة. وفي ديسمبر الماضي، وقعت «الإمارات»، اتفاقًا مع المغرب لتصبح الداعم الرئيسي لمشروع خط أنابيب الغاز الأطلسي، الذي يهدف إلى نقل الغاز من نيجيريا على طول ساحل الأطلسي لغرب إفريقيا إلى المغرب، ثم إلى أوروبا، كما شهد مؤتمر المعادن في جنوب إفريقيا في فبراير الماضي حضورًا خليجيا مميزا.
ومع تكثيف دول الخليج استثماراتها في إفريقيا، وخاصة في قطاعي الطاقة والمعادن، أصبحت في وضع منافس للاستثمارات الصينية، ويعكس هذا قدرة موارد القارة على جذب استثمارات قوية. وتسعى «الصين»، من خلال خطة «الحزام والطريق» منذ 2013، إلى ترسيخ أقدامها في إفريقيا في هذه القطاعات، غير أن ثلاث دول خليجية هي «الإمارات، والسعودية، وقطر»، أخذت تزاحم هذا الاتجاه، فيما أخذت شركات أمريكية وأوروبية أيضًا تدخل مضمار هذه المنافسة، غير أن دول الخليج تمتلك ميزة توافر التمويل اللازم لاستثماراتها، فيما تعهدت «الإمارات»، وحدها باستثمارات تقرب من 70 مليار دولار في بعض دول القارة خلال عام 2022، لتصبح بذلك أكبر مستثمري القارة، كما وسعت من حصتها في الموانئ الإفريقية، وحصلت مجموعة موانئ أبوظبي على عقود تطوير في 16 دولة بالقارة من بينها أنجولا، والكونغو، ونيجريا، وغينيا، والسنغال.
ومع سوق إفريقي يبلغ حجمه قرابة 1,2 مليار نسمة بناتج محلي إجمالي قرابة 3,4 تريليونات دولار، وموارد مازالت بكرًا، يتم تغذية شهية التوجه الاستثماري الخليجي، مع 30% من احتياطي العالم من المعادن، و8% من الغاز الطبيعي، و12% من النفط، و40% من الذهب، و90% من الكروم والبلاتين، و65% من الأراضي الصالحة للزراعة، و10% من مصادر المياه العذبة المتجددة، وأكبر احتياطات العالم في الكوبالت والماس واليورانيوم. وبحسب «برنامج الأمم المتحدة للبيئة»، تخسر القارة سنويا ما يقدر بحوالي 195 مليار دولار من رأس مالها الطبيعي، نتيجة التدفقات المالية غير المشروعة، والتعدين غير القانوني، وقطع الأشجار غير المشروع، والاتجار غير القانوني في الأحياء البرية، والصيد غير المنظم، والتدهور البيئي.
وفي ظل انتشار «جائحة كورونا»، التي تسببت في انخفاض إيرادات النفط من ناحية، واضطرابات سلاسل التوريد العالمية من ناحية أخرى؛ أخذت توجهات الاستثمار الخليجي «قوة دفع»، ما وضع التنوع الاقتصادي والأمن الغذائي، كأولويات ملحة في سياسة دول المجلس، ودفعها إلى تنمية العلاقات الاقتصادية مع إفريقيا، وزيادة فرص التعاون في الزراعة والغذاء والمعادن، وصارت الإمارات ثاني أكبر دولة مستثمرة في القارة -فيما تعد «السعودية»، حاليًا خامس أكبر مستثمر، وتركز استثماراتها على الزراعة، والمياه، والطاقة، والإسكان- وكان «صندوق أبوظبي للتنمية» في طليعة تلك الاستثمارات، وقام بتمويل أكثر من 66 مشروعا في 18 دولة إفريقية بقيمة 16,6 مليار دولار، وفي «موزمبيق»، مثلاً بلغت استثماراتها نحو 3,3 مليارات دولار حتى 2023 في 72 مشروعا، فيما بلغ عدد شركاتها العاملة بها 33 شركة. وبين 2016 – 2021 استحوذت على 88% من إجمالي الاستثمارات الخليجية في إفريقيا وجنوب الصحراء بإجمالي 1,2 مليار دولار.
وعلى مدى السنوات العشر (2012 – 2022)، تصدرت الإمارات دول مجلس التعاون كأكبر مزود في إفريقيا للاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعات النمو الرئيسية في القارة بـ 59,4 مليار دولار، فيما بلغ الإجمالي الخليجي 101,9 مليار دولار. ويتوقع «استاندرد بنك جروب»، وهو أكبر بنك في إفريقيا من حيث الأصول، أن «أبو ظبي»، ستصبح واحدة من أكبر مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر في القارة في السنوات الخمس المقبلة، مع تضاؤل التمويل الصيني وتراجع المشاركة الغربية، فيما كانت قد تعهدت بضخ 52,8 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي في 2022، وهو ما تجاوز مساهمات «بكين»، بمقدار 20 مرة، ومساهمات الولايات المتحدة 7 مرات.
وفي 2023، تعهدت «الإمارات»، بضخ استثمارات في إفريقيا بنحو 44,5 مليار دولار، أي ما يقرب من ضعف مساهمات «الصين»، التي جاءت في المرتبة الثانية بقيمة 25,9 مليار دولار، و«المملكة المتحدة»، الثالثة بـ 22,7 مليار دولار، و«الولايات المتحدة»، الرابعة 8 مليارات دولار، و«فرنسا»، 6,2 مليارات دولار، فيما تركز الاستثمارات الإماراتية على قطاع الطاقة المتجددة والمعادن والبنية التحتية، وتواكب مع نمو استثماراتها نمو الاستثمارات السعودية والقطرية أيضًا.
على العموم، وجدت دول الخليج في السوق الإفريقية ما تبحث عنه، سواء لخدمة خطط التصنيع من معادن أو لخدمة الأمن الغذائي، أو مجالات استثمار آمنة غير خطرة ذات عوائد مجزية، أما الصورة الذهنية التي كثيرًا ما نقلها الإعلام الغربي عن الاستثمار في إفريقيا فقد تبين أنها مغلوطة أو على الأقل مغالى فيها، فيما تجد دول القارة في التعامل مع الخليج مصدرا آمنا للاستثمار، بعيدًا عن المشروطية السياسية، وتجد في منطقة الخليج أيضًا واسطة العِقد في التجارة مع آسيا وأوروبا، ولهذا فقد كانت المصالح المتبادلة قوة دافعة وراء صعود الاستثمارات الخليجية في إفريقيا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك