الخارطة السياسية في دول الاتحاد الأوروبي تميل شيئا فشيئا نحو اليمين المتطرف الشعبوي، وتشهد انخفاضا في شعبية قوى اليمين التقليدي والوسط وينازع اليسار للحفاظ على قوته، هذا ما أشارت اليه نتائج الجولة الاولى للانتخابات التشريعية الفرنسية والتقدم الواضح لليمين المتطرف، وأصبح هناك تخوف في أوساط الفرنسيين أن يحصل هذا اليمين على الأغلبية المطلقة في الجولة الثانية، وإذا ما اضفنا سيطرة اليمين المتطرف في السويد وهولندا وإيطاليا، ومؤشرات انتخابات البرلمان الأوروبي الشهر الماضي، فإن أوروبا تزحف نحو اليمين. وإذا ما تعمقنا فيما يجري فإن الخارطة السياسية في اوروبا التي تكونت بعد الحرب العالمية الثانية، وبفعل تأثيرها، حيث سيطر منذ ذلك التاريخ اليمين التقليدي والوسط ووسط اليسار على الدول الاوروبية ولاحقا في مؤسساتها الاتحادية، اما اليمين المتطرف فبقي هامشيا في اوروبا التي اكتوت من النازية والفاشية قبل وخلال الحرب.
على أي حال، فإن ما يجري، إذا نظرنا اليه من الخارج، وبالتحديد من منطقة الشرق الأوسط، فإن أوروبا عمليا تعود إلى طبيعتها القديمة، يسيطر عليها مجددا الخطاب الشعبوي، وقد تحل الإسلاموفوبيا محل اللاسامية، وحتى من الممكن ان تعود اللاسامية ذاتها الى المشهد الأوروبي. قد يقال ان هذا الاستنتاج سابق لأونه، ولكن هذا ما نسمعه من اقطاب اليمين المتطرف في سياق تحشيدهم للجماهير ومخاطبة غرائزهم.
خطورة هذه التطورات، ان الولايات المتحدة الأمريكية، تشهد متغيرات مشابهة، وخصوصا ان الحزب الجمهوري قد فقد مع الترامبية طابعه اليميني التقليدي، وبدأت تسيطر عليه الفئات المتطرفة والاكثر تطرفا.
اما الحزب الديمقراطي، وان كان لا يزال يصنف كحزب ليبرالي، فإنه يفتقد لوجود قيادة قوية مما يهدد وحدته وتخلي المستقلين عنه، وبالمحصلة فإن كتلة اليمين المتطرف هي الأكثر تماسكا.
انزلاق أوروبا نحو اليمين المتطرف الشعبوي، سيؤثر على المؤسسات الأوروبية، وعلى صيغة الاتحاد الحالية، وربما تغيب القوانين الأكثر ليبرالية وانفتاحا، لصالح أوروبا المنغلقة على نفسها، كما قد تتخلى عن الضمانات الاجتماعية، فهذا اليمين يتوعد بتخفيض الضرائب على الأثرياء على حساب الضمان الاجتماعي، مما قد يؤسس لأزمات من نوع آخر داخل كل بلد.
اليمين المتطرف يحاول الإيحاء من ناحية أخرى بأنه عندما يتسلم الحكم سيكون أكثر عقلانية، كما تتصرف رئيسة الوزراء ميلوني في إيطاليا، ولكن من المؤكد أن ما يجري هو على حساب التيار الليبرالي، والانفتاح الأوروبي على الشعوب الأخرى، وخصوصا أن شعارات اليمين المتطرف الشعبوية تركز على مسألة الهجرة.
وفيما يتعلق بالمنطقة العربية، والقضية الفلسطينية تحديدا، فإن نظرة اليمين المتطرف الأوروبي إلى العرب هي نظرة ازدراء وعنصرية، ونظرة استعمارية فوقية، لا ترى سوى ما يتعلق باستغلال الثروات وأسواق بالمنطق القديم.
أما بخصوص القضية الفلسطينية، فإن زحف اليمين سيعيق موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية وحملة التضامن مع الشعب الفلسطيني، كشيء مباشر، كما سيكون نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة أكبر المستفيدين من هذه التحولات لأنهم جميعا من الطينة الايديولوجية نفسها، والمفاهيم السياسية ذاتها، كما سيؤثر على مواقف الاتحاد الأوروبي السياسية الإيجابية وربما على المساعدات التي تقدم لفلسطين ووكالة الأونروا.
هناك سياسة فلسطينية رسمية، هي عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى وتحترم خيارات الشعوب بغض النظر عما قد يؤثر على القضية الفلسطينية، وربما على أصحاب القرار الفلسطيني، أن يلاحظوا هذه المتغيرات وإيجاد الوسائل للتقليل من تأثيراتها السلبية، عبر التحدث مع أوروبا بمنطق براغماتي، ومن رؤية الواقع والتعامل معه، مع إبقاء الانفتاح على كافة القوى الأوروبية، وربما الأهم أن نقدم أنفسنا بشكل متماسك، محاطين بعلاقات عربية قوية وغيرها من العلاقات.
اوروبا اليمينية لا تؤمن إلا بالمصالح ولا علاقة لها بالمسائل القيمية والاخلاقية، وربما لا تكترث للقانون الدولي ولا حتى لمؤسسة الأمم المتحدة. ولكن كل هذا مجرد توقعات وتحليل بناء على الكيفية التي يقدم فيها هذا اليمين نفسه للعالم، لننتظر إذا ما كان سيتصرف عندما يكون في الحكم انطلاقا من شعاراته الشعبوية أم ان الواقع سيطوع هذه الشعارات، ولكن تجربة ترامب الأولى (2016 - 2020) كانت قاسية على القضية الفلسطينية، عندما اعترف بالقدس عاصمة «للشعب اليهودي» ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس نهاية عام 2017، وجمد المساعدات عن الأونروا والسلطة الوطنية الفلسطينية، بالإضافة الى محاولته فرض الحل الاقتصادي وصفقة القرن على الشعب الفلسطيني.
من هنا فإن المشكلة تتعلق بمواقف اليمين المتطرف من القضية الفلسطينية، وان الفلسطينيين لن يبادروا باتخاذ مواقف ولا يريدون معاداة أي طرف إلا بقدر ما تتخذه الاطراف من مواقف سلبية من الحقوق الوطنية الفلسطينية، هذا هو المعيار الذي يتبناه الشعب الفلسطيني.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك