قبل وبعد أن أصدر «فلاديمير بوتين»، أمره بشن حرب على أوكرانيا، أعرب المعلقون الغربيون عن قلقهم إزاء الضعف الواضح في قيادات «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، و«أوروبا»، حيث لم يتمكنوا من ردعه عن هذه الحرب. ووصف «ليام كولينز» من «مؤسسة أمريكا الجديدة»، و«فرانك سوبتشاك» من «أكاديمية ويست بوينت»، تحركات «إدارة بايدن»، قبل الحرب بأنها «واهنة وغير كافية». وأشار «هنري كيسنجر»، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، قبل وفاته بعام، إلى إخفاقات هذه الإدارة، معربًا عن أسفه لغياب شخصيات «قوية» على الساحة الدبلوماسية الغربية.
وبخلاف القادة البارزين في الماضي، مثل «مارغريت تاتشر»، رئيسة وزراء بريطانيا، و«كونراد أديناور»، مستشار ألمانيا، و«شارل ديغول»، رئيس فرنسا، الذين لم يقتصر نفوذهم على شؤون القارة فحسب، بل امتد إلى الساحة الدولية؛ أشار «سيمون تيسدال» في صحيفة «الجارديان»، إلى أن «إيمانويل ماكرون»، رئيس فرنسا، و«أولاف شولتز»، مستشار ألمانيا، و«بوريس جونسون»، رئيس وزراء المملكة المتحدة – آنذاك – أظهروا ضعفهم، وافتقارهم للإلهام، وانعدام الثقة.
وتعليقًا على ما كتبه «تيسدال»، حول حاجة الغرب إلى رجال دولة «صادقين»، و«جديرين بالثقة»؛ من أجل ردع أمثال «بوتين»، كشفت حرب غزة في أكتوبر 2023 عن وقوف هذه الحكومات إلى جانب القمع الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، والدمار الواسع النطاق في غزة، وهو الموقف الذي لم يتغير رغم سلسلة الانتقادات من جماعات حقوق الإنسان، وإدانات الأمم المتحدة، والإجراءات القانونية المستمرة ضد حكومة «بنيامين نتنياهو»، بتهمة ارتكاب «جرائم حرب»، أمام محكمتي «العدل الدولية»، و«الجنائية الدولية». ومع ذلك، لايزال «نتنياهو»، زائرًا مُرحبًا به في العواصم الغربية. ولهذا السبب، اتهم «بليز مالي»، من «معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول»، إدارة بايدن بأنها «خانت بشكل صارخ»، التزامها «الظاهري بحقوق الإنسان والقانون الدولي»، مشيرًا إلى تناقض تعاملها مع حرب غزة، مقارنة بمواقفها بشأن حالة أوكرانيا.
وبالمثل، ارتكب «ماكرون»، و«شولتز»، ورئيس وزراء المملكة المتحدة «ريشي سوناك»، ورئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين»، نفس الإخفاقات الجسيمة في القيادة الأخلاقية والسياسية. وتؤكد المقارنات مع أسلافهم مدى الانحدار الحاد الذي شهدته القيادة العالمية الغربية في العقود الأخيرة.
ونظرًا إلى أن «الولايات المتحدة»، تعتبر القاطرة السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية الأولى للغرب، فلا يُستغرب أن يكون مثال الحنكة السياسية الذي يظهره رئيسها، هو المعيار الذي يتبعه الآخرون، لكن في حالة «بايدن»، افتقد الغرب ذلك المثال طوال فترة وجوده. وبعد سنوات من القرارات السياسية غير المدروسة لسلفه «دونالد ترامب»، أشار «ستيفن ليفينغستون» في صحيفة «واشنطن بوست»، إلى أنه دخل البيت الأبيض في يناير2021؛ بهدف «إعادة السياسة الخارجية لبلاده إلى مسارها المعهود»، من خلال إعادة الانضمام إلى المعاهدات، والعودة إلى التحالفات، وبالتالي «استعادة مكانتها عالميًا».
ومع اقترابه من الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر 2024، لم تتحقق هذه الطموحات، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أخطائه الاستراتيجية الجسيمة. وفي ظل رفض «ستيفن والت» من جامعة «هارفارد» مؤخرًا «عدم كياسة» التصرفات الأمريكية في الخارج، أوضح «ستيفان ثيل» في مجلة «فورين بوليسي»، كيف كان القرار الأحادي الجانب بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان في 2021، بمثابة «كارثة»، مشيرًا إلى أن «تركيز الرئيس المبكر على الديمقراطية وحقوق الإنسان، قد تعرض للخطر منذ ذلك الحين؛ بسبب تجاهله للحقائق الجيوسياسية».
وأدى عدم استجابة المسؤولين الغربيين للحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، إلى تأجيج الانتقادات ضدهم واتهامهم بـ«الافتقار إلى القيادة الأخلاقية»، و«الحنكة السياسية في أوقات الأزمات»، خاصة في ضوء تعارض قراراتهم السياسية مع الآراء الواضحة لمواطنيهم. ففي «المملكة المتحدة»، يؤيد 69% من البريطانيين وقفًا فوريًا لإطلاق النار، ويتعاطف 29% مع الفلسطينيين مقارنة بتعاطف 16% مع إسرائيل. أما في «الولايات المتحدة»، فإن 55% من الأمريكيين يرفضون الهجمات الإسرائيلية، بينما يدعمها 36% فقط، وهو تغيير ملحوظ عن نوفمبر 2023، حيث كانت النسب (50% تأييدًا، و45% معارضة).
وفي أوروبا، ارتفع تأييد فرض عقوبات على إسرائيل إلى 65% في إيطاليا، و51% في فرنسا، و50% في ألمانيا. ورغم أن هذه البيانات تسجل بأغلبية كبيرة رأي الشعوب الغربية ضد حرب إسرائيل، وتعاطفهم مع الفلسطينيين؛ فقد كتب «مالي»، عن استمرار رؤساء الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي في السماح لإسرائيل بتدمير غزة «دون رادع»، مما أسفر عن استشهاد ما يزيد على 37 ألف مدني.
وفي ظل الانقسام الواضح بين الأجيال وبشكل خاص بين الشباب والمواطنين الأكبر سنا في وجهات نظرهم بشأن موقف الغرب من الحرب في غزة، فمن الجدير بالملاحظة كيف تجاهل القادة، الناخبين الأصغر سنا ودعموا الجهود الرامية إلى إسكات أصواتهم. وردًا على حملات القمع التي تقوم بها الشرطة ضد الاحتجاجات السلمية المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات بجميع أنحاء أمريكا، تحدث «بايدن»، عن كيف «يجب أن يسود النظام»، وذهب خليفته المحتمل في البيت الأبيض، «ترامب»، إلى أبعد من ذلك عبر زعمه بأن هؤلاء المتظاهرين جزء من «ثورة راديكالية»، وتعهد بطردهم من مؤسساتهم التعليمية، متفاخرًا أيضًا بالطريقة التي سيعيد بها الحركة الداعمة لفلسطين «25 أو 30 عامًا إلى الوراء».
وتماشيا مع هذه الخطابات المروعة، وصفت وزيرة الداخلية البريطانية السابقة «سويلا برافرمان»، المظاهرات في بريطانيا بأنها «مسيرات كراهية». وفي مايو أيضا استدعى «سوناك»، قادة الجامعات؛ لتحذيرهم بضرورة «تحمل المسؤولية الكاملة»، أمام تجنب اندلاع الاحتجاجات، وهو الأمر الذي قاد مئات من أعضاء هيئة التدريس، بما في ذلك «أكسفورد»، و«كامبريدج»، لتوقيع رسائل مفتوحة؛ تضامنا مع المحتجين المدافعين عن حقوق الفلسطينيين.
علاوة على ذلك، تزايدت الانتقادات الموجهة إلى القادة الغربيين في مجالات أخرى، مثل «الأمن المناخي». ففي بريطانيا، يعتقد 59% من المواطنين أن القضايا البيئية يجب أن تكون على رأس الأولويات الوطنية. وأشار «تود ستيرن» – المبعوث الخاص لتغير المناخ في عهد «باراك أوباما» – إلى أنه رغم تقديم «حكومة سوناك»، نفسها كواحدة من الدول الرائدة في المفاوضات الدولية بشأن مكافحة تغيُّر المناخ، فقد اتبعت وتيرة بطيئة في اتخاذ إجراءات ذات مغزى، لتجنب التداعيات المناخية الكارثية طويلة الأجل. وفي حالة الأمريكيين، أضاف «ستيرن»، أنه إذا أعيد انتخاب «ترامب»، فمن المرجح أن يتخلى عن الالتزام بالاتفاقيات المناخية المتعارف عليها للمرة الثانية، وهو أمر من شأنه أن يكون «مدمرا للغاية» للجهود العالمية، نظرًا لأن «الولايات المتحدة»، تعتبر «لاعباً كبيراً ومهماً»، في تعزيز العمل من أجل حماية البيئة.
وحتى في الحالات التي ينحاز فيها الرأي العام الغربي إلى عملية صنع القرار السياسي، يبدو أن التفكير الاستراتيجي طويل المدى من جانب القادة الغربيين لا يزال «غائبا». وعلى الرغم من أن الدعم الغربي لاستمرار مساعدة أوكرانيا في حربها ضد روسيا لا يزال مرتفعا (72% من الأمريكيين يعتقدون أن هذا الدعم مناسب نوعا ما، و65% من البريطانيين يؤيدون انضمام كييف إلى حلف الناتو)، أشار «مالي»، إلى أن «إدارة بايدن»، وحلفائها أظهروا «عدم الرغبة وعدم المقدرة على تحويل نهجهم الاستراتيجي بعيدا عن فكرة الاستمرار في القتال»، لحماية الديمقراطية التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الوسائل العسكرية.
وتتضافر هذه الإخفاقات لتؤدي إلى تقليص مصداقية القادة الغربيين على الصعيدين المحلي والدولي. وأضر موقف «واشنطن» من الحرب في غزة بشكل كبير بمكانتها في المنطقة أمام شركائها. وأوضحت «جودي ديمبسي»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، أن النفوذ الأوروبي وهيمنته على الشؤون الإقليمية تأثرا أيضًا بنفس الطريقة. وتشير تقارير إعلامية إلى أن «واشنطن»، وحلفاءها «لا يستطيعون تبرير متطلبات فرض عقوبات على حماس؛ بهدف خلق أجواء من السلام، وإعادة إرساء الأمن والاستقرار». وفي حين عمل «بايدن» على الدفاع عن خطته للسلام التي تم الكشف عنها في نهاية مايو 2024؛ فقد دافع في الوقت نفسه عن «إسرائيل»، لتجنب المساءلة الدولية عن استشهاد المدنيين وتدمير المنازل والبنية التحتية، خاصة مع استمرار الولايات المتحدة في تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر التي تستخدم في انتهاك القانون الدولي، حيث بلغت قيمة ما قدمته أمريكا لإسرائيل أكثر من 300 مليار دولار منذ عام 1948.
وفي هذا السياق، أشار «مالي»، إلى أن «الولايات المتحدة»، فقدت «أي شرعية ومصداقية كانت تملكها سابقا»، وأن «معاييرها المزدوجة»، بخصوص القانون الدولي، وحقوق الإنسان تُطبق بشكل غير عادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين؛ مما أدى إلى تقويض موقفها بخصوص الحرب في أوكرانيا. وبناءً على ذلك، فإن القرارات السياسية التي يتخذها القادة الغربيون بهدف إرضاء جماعات المصالح والضغط القوية داخل واشنطن، تؤدي في النهاية إلى «تأثيرات استراتيجية كبيرة»، تؤثر سلبا على مصالح دول الشرق الأوسط وغيرها. ونتيجة لهذه الإخفاقات، أوضح أن «إدارة بايدن»، التي تشمل شخصيات مثل «بلينكن»، ومستشار الأمن القومي «جيك سوليفان»، قد «أضاعت فرصة لتغيير السياسة الخارجية»، التي تم تقديمها في عام 2021 بعد مغادرة ترامب.
على العموم، مع عدم رغبة القادة الغربيين في اتخاذ إجراءات حازمة بشأن القضايا الدولية، لا يُعَدُّ مفاجئًا أن يصبح المرشحون المتشددون في طليعة المشهد السياسي الغربي. وقد فاز مرشحو التيارات اليمينية المتشددة في الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي في يونيو 2024. وعلى الرغم من إدانته مؤخرًا بتزوير سجلات تجارية خاصة بالبيت الأبيض، فإن «ترامب»، يتقدم حاليًا على «بايدن» في استطلاعات الرأي. وأشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن 47% من الأمريكيين قد أعربوا عن رغبتهم في التصويت للرجل الذي يقدم وعودًا انتخابية نارية، متعهدا بالانتقام من خصومه، ورفع السرية عن ملفات حساسة، وهو ترامب بلا شك.
وبالنظر إلى هذا الوضع، ومع تهميش المخاوف والاهتمامات الخاصة بالجيل الجديد من القادة المعتدلين، والعمل على إقصائها من حسابات صنع القرار السياسي للقادة الحاليين ومستشاريهم، ستستغرق الدول الأوروبية وقتًا طويلاً للالتزام الفعلي بمبادئ دعم القانون الدولي، وحقوق الإنسان بشكل يتوافق مع بقية العالم، مما يوحي بعدم وجود تغيير في الأفق حتى الآن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك