مازلت أتذكر بكل وضوح أول يوم لي في مدرسة تابعة لوكالة الأونروا التابعة لمنظمة الأمم المتحدة في مخيم للاجئين في قطاع غزة. كان عمري خمس سنوات وكنت أشعر وكأن حياتي قد انتهت.
كانت المسافة من القطعة رقم 5 في مخيم النصيرات للاجئين إلى المخيم الجديد –الواقع داخل الحدود البلدية للنصيرات– طويلة ومرهقة ومرعبة.
كنت آنذاك أضطر إلى المشي عدة أميال، في رحلة مليئة بالأتربة مما أضر ببدلتي الحمراء الجديدة المصممة خصيصًا والصنادل البرتقالية.
وفي الرحلة الشاقة، مروراً ببساتين الحمضيات وأكوام الرمال، رافقني مئات الأطفال، بعضهم أكثر خبرة وثقة، وآخرون مثلي، يبكون على طول الطريق إلى مدرسة الأونروا الابتدائية للبنين.
وفي الطريق، تعرفت على «رجل البستان المجنون»، ذلك الحارس الأشعث الذي يطارد الأطفال المشاغبين كلما حاولوا قطف ثمار البرتقال من الأشجار.
وتعرفت أيضًا على الكلاب المطلقة التابعة لبعض القبائل البدوية، والتي قد تؤدي عضاتها إلى حقن الكثيرين منا للوقاية من الإصابة بداء الكلب والشعور بالألم الشديد.
وعندما وصلت إلى الصف، تحولت دموعي إلى بكاء. فقد بدأنا نتعلم كيفية القراءة والكتابة وكأنه تمرين لا قيمة له، بالنظر إلى مخاطر أن تصبح تلميذا في إحدى مدارس الأونروا في غزة.
للأسف، لم تكن هناك نهاية سعيدة فورية، حيث كنت بالفعل مطاردًا من قبل «الرجل المجنون»، وعضتني الكلاب، وعلقت الأتربة بصندلي وتلطخت بدلتي الحمراء ذات الأزرار الكبيرة ذات اللون الفضي.
ولكن في نهاية المطاف، كان الأمر يستحق كل هذا الجهد. زملائي، منذ اليوم الأول من العام الدراسي، هم الآن المثقفون العظماء في غزة، الصحفيون، المعلمون، الأطباء، الآباء، وكل الأشخاص الرائعون الذين جعلوا من غزة المكان العنيد الذي يلهم العالم أجمع، وقد قُتل أو جُرح الكثير منهم في هذه الحرب، فيما لا يزال الكثيرون يكافحون من أجل إبقاء غزة نفسها على قيد الحياة.
وعلى الرغم من أنني لم أعد أعيش في مخيم النصيرات، فإن علاقتي بالمكان أصبحت أقوى مع مرور الوقت.
وفي اللغة العربية نقول: «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، ولكن غزة تشكل استثناءً، لأن الناس الذين نتركهم خلفنا لا يمكن نسيانهم، ولأن معاناتهم، وخاصة في أوقات الحصار والحرب، أشد من أن نتجاهلها.
بينما كنت أتصفح هاتفي المحمول يوم الخميس 6 يونيو بحثاً عن أخبار عما يجري في غزة، بعد تسعة أشهر من بدء الحرب، تصدرت الأخبار العاجلة مرة أخرى: «مذبحة النصيرات» عناوين الأخبار.
بدت المذبحة فظيعة حتى قبل نشر تفاصيلها الدموية.
وبعد أيام قليلة، وفي يوم 8 يونيو الماضي، وقعت مأساة أكبر بكثير، قُتل وجُرح فيها المئات. أصبحت كلمتا «مذبحة» و«النصيرات» متشابكتين للغاية في الأشهر الأخيرة لدرجة أن العناوين الجديدة غالبًا ما تحذف المزيد من التفاصيل.
عندما كنت أشاهد صور القتلى والجرحى في مدرسة الصردي ولاحقاً في السوق المركزي، خشيت أن أتعرف على بعض الوجوه المألوفة.
لقد حدث هذا السيناريو الكارثي المرعب من قبل، وبشكل متكرر، حيث كنت أكتشف أن أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو الجيران قتلوا أو أصيبوا من خلال الأخبار.
وبالتالي، كلما ظهرت صور جديدة من الهجوم على غزة، أكون دائمًا على أهبة الاستعداد. وفي حالة مجزرة المدرسة، لم أتعرف على أحد، ربما لأن الضحايا معظمهم من الفلسطينيين المهجرين من مناطق أخرى كثيرة في قطاع غزة، سواء في الشمال أو الجنوب.
فكرت في المدرسة نفسها. إن مجموعة مدارس الأونروا التي تعرضت للهجوم الأخير استضافت 50?000 شخص - معظمهم من الأطفال والنساء.
قبل بضعة أشهر فقط، كانت تلك المدرسة نفسها مصدرًا للفرح والمعرفة والصداقة، لكنها أيضًا مصدر خوف للأطفال الصغار الذين تم انتزاعهم من عائلاتهم.
ولتخفيف بعض المعاناة، قام العديد من المتطوعين في المخيم بإقامة جميع أنواع الأنشطة المجتمعية في بعض هذه الملاجئ.
يؤدي المهرجون المتطوعون عروضهم بانتظام، ويقص الحلاقون المتطوعون الشعر، ويعقد المعلمون الفصول الدراسية، وتخبز النساء معًا، وتنظم نوادي كرة القدم المحلية البطولات.
كل هذا يتم من أجل طمأنة الأطفال أنه على الرغم من المعاناة المستمرة وأصوات القنابل من حولهم، فإنهم سيبقون دائمًا آمنين في الداخل.
ولكن لا يوجد مثل هذا الأمان، لا في المدارس ولا في المساجد ولا في الكنائس ولا حتى في المستشفيات.
أكتب هذا لأنني أخشى أن القراء والمشاهدين لن يربطوا النصيرات إلا بالمجازر، مع الجثث المصفوفة على الأرض، المغطاة بالبطانيات نفسها التي كانوا يستخدمونها لتغطية أنفسهم في الليل.
النصيرات، مثل غزة، تمثل ثقافة لا يمكن كسرها، مهما كانت قوة النيران، أو حجم المجازر.
بالنسبة إليّ، النصيرات هي حياة عشناها بالكامل، وذكريات لا يمكن نسيانها، ومستقبل من الحرية والكرامة.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك