عندما قررت الدول الغربية وأغلبية الأعضاء في حلف الناتو معاقبة روسيا الاتحادية اتخاذ عدد كبير من الإجراءات الأمنية والاقتصادية والعسكرية كانت تعتقد أن تأثيرها الكبير على روسيا سوف يؤدي إلى تراجع هذه الدولة عن موقفها وأهدافها المعلنة عبر العملية العسكرية الروسية الخاصة لحماية منطقة الدونباس.
لقد قررت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا حظر النفط والغاز الروسيين وتعهدت دول الاتحاد الأوروبي بالعمل على إنهاء صادرات الغاز من روسيا خلال السنوات القليلة القادمة للبحث عن بدائل أخرى وإن كانت أكثر كلفة وأغلى سعرا، كما اتخذت هذه الدول قرارات وإجراءات مالية خطيرة أهمها إخراج روسيا الاتحادية من النظام المالي العالمي «سويفت» بما يعقد العمليات المالية الروسية وربما يدمرها، كما اتخذت إجراءات أخرى تتمثل في تجميد الأموال الروسية في دول الاتحاد الأوروبي التي تقدر بأكثر من 300 مليار دولار، التي وصفها وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف بسرقة الأموال الروسية، بما يعني أن روسيا كانت تقدم هذا الغاز بالمجان في حين أن هذه الأموال هي حصيلة شراء الغاز الروسي من هذه الدول.
في هذا الموضوع نركز على الجانب الاقتصادي من العقوبات التي تبين بوضوح أنها رغم قساوتها وغير قانونيتها في العديد من الجوانب، فإنها لم تؤثر بالشكل المتوقع من دول الغرب على الاقتصاد الروسي.
لقد واجهت روسيا الاتحادية حزما من العقوبات الغربية، خاصة فيما يتعلق بالجانب المالي والتكنولوجي والاستيراد والتصدير، إلا أن التقارير الصادرة ليس عن روسيا فقط، بل عن الصحافة الغربية المتخصصة خاصة الأمريكية، تؤكد أن تأثير هذه العقوبات لم يكن كبيرا على الاقتصاد الروسي ولا على مستوى معيشة المواطن الروسي، وذلك لنجاح التعامل الروسي مع هذه العقوبات وتوفير البدائل بالسرعة المطلوبة والدليل على ذلك أن روسيا قد باعت خلال الشهرين الماضيين من الأزمة كميات من البترول والغاز أكثر من 46 مليار دولار، كما أكدت المصادر الإعلامية والاقتصادية الروسية، فقد تبين أيضا أن الدول الغربية هي التي واجهت معضلة كبيرة على مختلف الأصعدة، فمن الواضح أن نسبة التضخم في بلدان الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال تجاوزت 7.5% وهي نسبة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما أن هذه النسبة بلغت 8% في الولايات المتحدة الأمريكية وهو مؤشر خطير على ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطن الأمريكي والمواطن الأوروبي، فلأول مرة في تاريخ العقوبات يتضرر فيها الذي يعاقب المعاقبين وهي مفارقة غريبة، تفسيرها الوحيد أن روسيا قد نجحت فعلا في استيعاب هذه العقوبات وتحويلها من مخاطر تهدد الاقتصاد الروسي إلى فرصة جديدة لتنمية هذا الاقتصاد وتوفير البدائل وتقليل الاعتماد على الدول الغربية وفتح باب الاستثمار الداخلي وتنمية الاقتصاد الوطني والاستثمار فيه، فضلا عن تعزيز العلاقات مع الشركاء الرئيسيين، وخاصة جمهورية الصين الشعبية وجمهورية الهند والبرازيل وعدد من الدول الإفريقية والعربية لإيجاد البدائل في التجارة الدولية والخروج تدريجيا عن الدولار في المعاملات المالية العالمية من خلال التعامل في البيع والشراء بالعملة الخاصة بالدول مثل اليوان الصيني والروبية الهندية، وهذا الإجراء قد شجع بلدانا أخرى في إمكانية التعامل بغير الدولار في عملية البيع والشراء منها المملكة العربية السعودية الشقيقة، كما نجحت روسيا في رفع قيمة الروبل ضمن العملات الدولية مقارنة بالدولار، حيث كان سعر الدولار في بداية الأزمة 140 روبل في حين أصبح الآن ٦٨ روبلا، وهذا يعني من حيث ترجمته المالية الاقتصادية بأن الإجراءات الروسية المعتمدة قد قلبت الأهداف الغربية رأسا على عقب.
لقد أعلنت وزارة المالية الروسية أنها تمكنت من سداد ديون لها في الأسواق العالمية تقدر بـ650 مليون دولار دفعتها بالروبل بعدما رفضت البنوك الغربية تسديدها بالدولار، وخلال الأسابيع الماضية تمكنت روسيا بفضل تخطيطها الجيد من تجنب خطر التخلف عن سداد الديون.
وفي الخلاصة، فإنه بالإمكان القول بأن السحر انقلب على الساحر فالدول الغربية تبدو الأكثر تأثرا بهذه العقوبات بدلا من موسكو، ولكن لا يعني أبدا أن هذه العقوبات الشرسة ليست مؤلمة لروسيا ولم تؤثر عليها وإنما هي لم تحقق الأهداف الغربية من هذه العقوبات وهي ضرب الاقتصاد الروسي وتدميره والتسبب في فوضى عارمة وهذا دليل على جهل الغرب بحقيقة الوضع في روسيا، فجحم الموارد والإمكانات التي تتوافر لدى موسكو تمكنها من الصمود عدة سنوات وليس عدة أشهر مثلما كان الغرب يعتقد، فلو كانت العقوبات الاقتصادية تجدي لكانت نفعت مع كوريا الشمالية ومع إيران على سبيل المثال اللتين تواجهان عقوبات باستمرار لم تمنعهما قط من الاستمرار في تنفيذ مخططاتهما.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك