معوقات وصعوبات استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية أو عسكرية تتمثل في عدة جوانب. أما الجانب الأول فهو الاعتبارات السياسية التي تحيط وتُقيِّد استخدام هذا النوع من الطاقة لأي هدفٍ كان، سواء لأغراض مدنية كتوليد الكهرباء في المدن، أو السفن العملاقة، أو الغواصات النووية، أو لاستخدامات عسكرية كإنتاج القنبلة الذرية والصواريخ ذات الرؤوس النووية وغيرهما.
فهناك دول حول العالم، يُطلق عليها النادي النووي، هي التي احتكرت هذه الطاقة الذرية منذ عقود طويلة من الزمن، وهي التي تسيطر الآن بشكلٍ مباشر، سواء من خلالها، أو من خلال المنظمة الدولية للطاقة الذرية، فهي التي تعطي الترخيص للاستخدام والسماح للدول الأخرى للولوج في تفاصيل هذا النوع من الطاقة، وذلك عندما ترضى عنها هذا الدول الكبرى المهيمنة على النادي النووي، وتتطابق سياساتها وتوجهاتها مع سياسات ومواقف دول النادي النووي. وهذا النادي بدأ صغيراً في البداية ومقتصراً على الدول الصناعية المتقدمة الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي سابقاً، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، ثم توسع النادي النووي العسكري ليشمل الصين، وكوريا الشمالية، وباكستان، والهند، والكيان الصهيوني، والتي جميعها تمتلك نوعاً ما من الأسلحة النووية، أو أسلحة الدمار الشامل.
أما الجانب الثاني، فهو متعلق بالأمن والسلامة من استخدام هذه الطاقة، وخاصة لأغراض مدنية. وهذا البعد الأمني يتم التركيز عليه أثناء وبعد إنشاء المفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية. ويتحدد هذا البعد في أخذ كافة احتياطات وإجراءات السلامة للموظفين العاملين في المحطة النووية لتوليد الكهرباء، إضافة إلى عامة الناس، سواء الذين يسكنون بالقرب من المحطة أو بعيداً عنها. ومن أهم وأخطر قضايا السلامة التي قد تهدد ليس القريب فقط، وإنما في بعض الحالات قد تُوقع سكان الأرض في خطر التعرض للإشعاعات عند تسربها من المفاعل. وهناك عدة كوارث وقعت في السابق وهي التي أيقظت العالم على وطأة تهديدات هذا النوع الجديد من الطاقة، وأكدت أهمية هذا البعد الأمني للبشر والكرة الأرضية برمتها. ومن أشهرها حادثة «ثري مايلز آيلند» في 28 مارس 1979 في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، وكارثة تشرنوبيل في 26 أبريل 1986 في أوكرانيا، وفوكوشيما في اليابان في 11 مارس 2011.
وأما الجانب الثالث فهو متعلق بمرحلة ما بعد تشغيل المفاعلات النووية وتوليد الكهرباء منها، وخاصة من ناحية المخلفات المشعة التي تنجم عنها بشكل مستمر. وهذا الجانب ذو شقين، بيئي وصحي في الوقت نفسه، ولذلك عادة ما لا يتم أخذ هذا الجانب في الاعتبار من حيث كيفية التعامل مع مخلفاتها، والطرق المستدامة لإدارتها، إلا بعد أن يصبح واقعاً ملموساً ومشهوداً أمام المعنيين، ويشكل خطراً بيئياً وصحياً على الناس أجمع وعلى كوكبنا. وهذا البعد المتمثل في المخلفات المشعة الصلبة، وشبه الصلبة، والسائلة يكون منسيا وقتاً طويلاً، ويتم تجاهل وجودها كواقع حتمي، فيخزن عادة في مواقع خاصة بطرق غير مستدامة وغير بيئية بعيداً عن الأنظار.
ويتمثل هذا الجانب في وقود اليورانيوم المستنفد الذي يُستخدم لتوليد الكهرباء ويفقد مع الوقت جزءاً كبيراً من قوته الاشعاعية، ولذلك يفقد قدرته على تشغيل المفاعل وإنتاج الطاقة فيتحول إلى مخلفات مشعة، مما يتحتم التخلص منه واستبداله بأعمدة وقود جديدة لها قوة عالية. وهذه الأعمدة المشعة، أو المخلفات الصلبة المشعة تكون جزءاً من كل المفاعلات النووية، سواء في محطات توليد الكهرباء، أو السفن والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية. كما أن هذا الجانب المنسي للطاقة النووية يتمثل أيضاً في جهود إغلاق المفاعل النووي أينما كان بشكلٍ كلي بعد أن تنتهي صلاحيته وعمره الافتراضي، ولذلك يجب تفكيكه بطرق سليمة بيئيا وصحيا والتخلص من جميع أجزائه ومكوناته المشعة من دون وقوع أي أضرار، سواء على العاملين أو السكان حول المفاعل، أو مكونات البيئة من ماء، وهواء، وتربة. وعملية التفكيك للمحطة النووية تُعد من أعقد القضايا التي يواجهها المهندسون والفنيون الآن، ومن أكثرها كلفة مالية واستغراقاً للوقت والجهد.
وهناك الكثير من المعلومات والدراسات والتقارير التي تُنشر بين الحين والآخر حول كمية ونوعية المخلفات المشعة في الدول الغربية، سواء على صورة أعمدة وقود اليورانيوم المستنفد، أو الأجهزة والمعدات المشعة، أو المخلفات السائلة، أو غيرها من المخلفات التي تنتج أثناء تشغيل المفاعلات وتوليد الكهرباء، أو بعد الانتهاء من العمر الافتراضي للمحطة نفسها.
ومعظم هذه التقارير تنشر في الدول الغربية المتقدمة الكبرى، ولكن هناك شحاً في المعلومات حول هذا المخلفات المشعة المنسية في الدول الشيوعية، وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي سابقاً، أو روسيا حالياً.
فمن هذه المنشورات التحقيق في صحيفة «موسكو تايمز» الروسية (The Moscow Times) في 28 مايو 2024 تحت عنوان: «الغواصات الروسية تبقى تهديداً ساماً للقطب الشمالي»، إضافة إلى ورقة العمل الصادرة في مايو 2024 من «مؤسسة بلونا» (Bellona Foundation)، وهي مجموعة بيئية دولية من القطاع الأهلي، تحت عنوان: «الإرث النووي للقطب الشمالي الروسي». وهذه الورقة الرابعة تقع ضمن سلسلة تقارير حول المخلفات النووية المشعة للاتحاد السوفيتي سابقاً وروسيا حالياً.
فهذا التقرير لخص أزمة المخلفات النووية المشعة الواقعة في شبه جزيرة كولا (Kola Peninsula) في القطب الشمالي الروسي على الحدود النرويجية والفنلندية في القطب الشمالي، وبالتحديد في خليج «أندريفا» (Andreyeva)، والذي يُعتبر من أكبر مواقع تخزين المخلفات النووية المشعة، وخاصة «أعمدة الوقود النووي المستنفد» ( spent nuclear fuel) في القارة الأوروبية.
فالقطب الشمالي الروسي، وبالتحديد القاعدة البحرية لصيانة الغواصات والسفن النووية، يعد من أشد المناطق تلوثاً اشعاعياً منذ زمن إمبراطورية الاتحاد السوفيتي بدءاً بعام 1961 عندما بدأت عمليات التشغيل. وهذه المنطقة نساها العالم وتجاهل وجودها في الكرة الأرضية المشتركة للجميع.
ولكن حادثة تسرب المياه المشعة في فبراير 1982، والتي أدت إلى صرف قرابة 700 ألف طن متري من المياه المشعة من الموقع إلى بحر بارنتس (Barents Sea)، ربما وجهت أنظار دول القارة الأوروبية نحو هذا الموقع الذي يحتوي في بطنه على الآلاف من قنابل الدمار الشامل الموقوتة والتي قد تنفجر في أي لحظة.
ونظراً إلى التهديد الذي يمثله هذا الموقع الكارثي على القارة الأوروبية خاصة وكوكب الأرض عامة، فقد وضَعتْ بعض الدول الأوروبية قبل عقد من الزمن خطة لتنظيفه من كافة أنواع المخلفات المشعة بكلفة تقدر بأكثر من 20 بليون دولار أمريكي، ولكن هذه الخطة توقف العمل بها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2024، مما يعني أنه رغم مرور أكثر من 64 عاماً على وجود هذه المخلفات فإن الأزمة العصيبة جارية ولم تنته بعد، وفي تقديري لن تنتهي في المستقبل المنظور، وستظل مخلفات منسية في ذلك الموقع البعيد النائي ولا يعلم أحد عواقبها، وهذه الظاهرة لا تنطبق فقط على روسيا وإنما على جميع الدول النووية التي بعضها كالولايات المتحدة الأمريكية لديها مخلفات نووية مشعة منسية منذ أكثر من 85 عاماً.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك