ساندت إدارة بايدن، الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر 2023، ورفضت لاحقًا العدول عن ذلك في الأشهر التسعة التالية بالرغم من استشهاد ما لا يقل عن 38 ألف مدني فلسطيني، وإصابة 86 ألفا آخرين -معظمهم من النساء والأطفال- وتدميرها لمنازلهم وبنيتهم التحتية، واختارت بدلا من ذلك الاستمرار في دعمها؛ سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا، فضلا عن حمايتها دبلوماسيًا من الإدانة والاستنكار الدوليين في الأمم المتحدة، وتهم الإبادة الجماعية من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية؛ وهو ما ألحق بالغ الضرر بسمعتها دوليا.
ونتيجة لهذه السياسات، انعكس الضرر على مصداقية الولايات المتحدة، في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي سجل فيها ستيفن والت، من جامعة هارفارد، أن أمريكا وحلفاءها، قد أججوا بها نار عدم الاستقرار، وانعدام الأمن من خلال سياسات التدخل العسكري، وتغيير الأنظمة، وشن حرب على الإرهاب، والالتزام الانتقائي بالقانون الدولي، وحقوق الإنسان، بما يتناسب مع مصالحهم السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وتفصيلا، طُرحت هذه الديناميكية في مجلة فورين أفيرز، في شكل استطلاع للرأي لثلاثة باحثين مشاركين في الباروميتر العربي -منظمة بحثية تجري استطلاعات رأي نصف سنوية حول القضايا الإقليمية في 16 دولة عربية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا- وهم مايكل روبنز، وأماني جمال، ومارك تيسلر، والذين أكدوا أن واشنطن تخسر مصداقيتها في العالم العربي، جراء سياساتها وأفعالها الداعمة لإسرائيل ضد الفلسطينيين في كل من غزة والأراضي المحتلة. ومع مواجهة الدول الغربية الأخرى، بما في ذلك المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، انخفاضات حادة أيضًا في شعبيتها في جميع أنحاء المنطقة، أشار الباحثون إلى أن منافسي أمريكا، مثل الصين، على الجانب الآخر، يجنون الفوائد لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية الطويلة المدى.
وبشكل واضح، يمكن تأكيد فرضية روبنز، وجمال، وتيسلر، القائلة إن الولايات المتحدة تفقد مصداقيتها الإقليمية بسرعة، من بيان موقف بايدن، ومعاونيه، وأبرزهم أنتوني بلينكن، وزير الخارجية، ولويد أوستن، وزير الدفاع، وجيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، الذين قاموا بجولة منتظمة بالمنطقة في محاولات فاشلة للتوصل إلى تسوية مواتية لإسرائيل، حيث لم يتبق لهم أي مصداقية على الإطلاق.
ومن خلال وصف اندلاع الحرب بغزة، بأنه لحظة فاصلة لعلاقات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط؛ أشار الباحثون إلى كيف تحول الرأي العام في جميع أنحاء المنطقة بشكل حاد ضد واشنطن. ووثقت النتائج التي توصلت إليها الباروميتر العربي، أنه بحلول عام 2022، كانت المواقف تجاه أمريكا قد تحسنت إلى حد ما، عقب سنوات من انعدام الثقة في أعقاب غزو العراق عام 2003، حيث أكد أكثر من ثلث المشاركين في الاستطلاع رأيًا إيجابيًا تجاهها؛ لكن بحلول وقت إجراء الاستطلاع في أواخر عام 2023 وأوائل 2024، تم تسجيل تراجع في سمعتها بين المواطنين العرب بشكل كبير وغير مفاجئ بالنظر إلى دعمها لإسرائيل.
وذكر روبنز، وجمال، وتيسلر، كيف انخفضت شعبية الولايات المتحدة من 51% إلى 28% في الأردن، ومن 60%إلى 31% في موريتانيا، ومن 42% إلى 27% في لبنان، ومن 40% إلى 10% فقط في تونس، مع انخفاض نسبة من يعتقدون امتلاك بايدن، سياسة خارجية «جيدة» إلى 12% في لبنان، و9% في الأردن، و8% في الكويت، و6% في المغرب و5% في موريتانيا. وفيما يعتقد 2% فقط من الأردنيين أن واشنطن، ملتزمة بحماية وتعزيز حقوق الإنسان الفلسطيني، نجد في المقابل ما يزيد على 60% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع ينظرون إليها على أنها ملتزمة بحماية حقوق الإنسان للإسرائيليين.
وتتزامن خسارة الولايات المتحدة، لسمعتها لدى الشعوب العربية مع تراجع مصداقيتها الدبلوماسية. وأشار الباحثون إلى أنه في الوقت الذي تسعى فيه إلى إنهاء الحرب في غزة، وبدء مفاوضات نحو تسوية دائمة، فإنها تحتاج إلى شراكة الحكومات العربية، وهو أمر سيكون من الصعب الحصول عليه مع استمرار تشكك المواطنين العرب في أهدافها بالشرق الأوسط. وبالنظر إلى الطريقة التي دافعت بها عن تصرفات إسرائيل، ورفضها الانضمام إلى غالبية العالم في الإدانة الصريحة للعنف الذي تمارسه ضد المدنيين الفلسطينيين؛ يبقى وجود تأثير لها في المنطقة من عدمه موضع تساؤل. وأشار دانييل ليفي، من مشروع الولايات المتحدة/الشرق الأوسط، إلى كيف أصبحت فلسطين وغزة تمثل الصورة الرمزية للتمرد ضد النفاق الغربي، والنظام العالمي غير المقبول، الذي تدافع فيه واشنطن عن تصرفات حلفائها في الوقت الذي تُدين فيه بشدة تصرفات خصومها.
وهنا يجب التأكيد على أن هذا الوضع قد نشأ بالأساس بسبب سياسات إدارة بايدن. وبدلاً من استغلال العلاقات الأمريكية مع إسرائيل كوسيلة لإجبار نتنياهو، على التوصل إلى اتفاق سلام ينهي الحرب، ويحدد ملامح الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية؛ حاول بلينكن، الضغط على حماس للموافقة على الشروط التي فرضتها إسرائيل. وبالتالي، فإن إصراره على أن الحرب ستستمر، بسبب رفض الحركة لخطة وقف إطلاق النار التي تدعمها بلاده، وأن الهجمات العسكرية على البلدات والمدن الفلسطينية لن تتوقف، هو أمر غير مقنع وغير مفاجئ في آن واحد.
ولم ينته الأمر بتأثر مصداقية واشنطن في المنطقة، حيث شهدت الدول الغربية الأخرى التي اختارت الوقوف إلى جانب إسرائيل حالة من تراجع أدوارها. وأشار رويري كيسي، في مجلة فورين بوليسي، إلى تآكل القوة الناعمة الألمانية في المنطقة؛ بسبب دعم حكومتها لأهداف الحرب الإسرائيلية.
ومن الملاحظ أن أزمة المصداقية التي تعتري الغرب -والتي كانت نتاجا لدعم الدول الغربية لإسرائيل رغم عقود من الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي- قد مثلت فرصة لمنافسي الولايات المتحدة لاستغلالها. ومع فشل الجهود الدبلوماسية الأمريكية بالمنطقة، أشار باتريك وينتور، في صحيفة الجارديان، إلى الكيفية التي تسعى بها الصين إلى تبني دور الوساطة، لتعزيز سمعتها، وتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، على حساب أمريكا. وعليه، أوضح روبنز، وجمال، وتيسلر، أن بكين تعد المستفيد الرئيسي من تراجع سمعة واشنطن بين الشعوب العربية، حيث ازدادت نسبة التأييد والدعم بين الدول العربية والصين في الآونة الأخيرة بنسبة 15 نقطة مئوية، وهو ما يوضح تغير طبيعة حال استمر نصف عِقد من ضعف الدعم للصين في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ودعما لهذا التقييم، أكد العديد من الأكاديميين تأييد الشعوب العربية لنهج الصين تجاه الأمن الإقليمي مقارنة بالنموذج الأمريكي.
وعلى الرغم من أنه ليس غريبا أن يكون العرب أكثر تشككًا في نوايا الولايات المتحدة، في المنطقة، وأقل ثقة بها، نظرًا إلى سياساتها الداعمة لإسرائيل؛ فقد أشار الباحثون إلى أن بيانات الاستطلاع تُظهر أن هذا الشك غير مقترن بالرغبة في رؤيتها تتبنى الحياد، أو تنسحب من الشرق الأوسط بصورة كلية. ومع ارتفاع أعداد الأصوات -بنسبة 21 نقطة مئوية بين الأردنيين، و18 نقطة لدى المغاربة، و17 لدى اللبنانيين- التي تعتقد أن الأولوية الإقليمية القصوى لبايدن بالمنطقة يجب أن تكون حماية حقوق الفلسطينيين، فقد رأوا أن تلك الشعوب تريد للولايات المتحدة أن تكون منخرطة في حل القضية الفلسطينية.
ومع الاعتراف بالأهمية المستمرة للقوة السياسية، والدبلوماسية، والعسكرية، والاقتصادية الأمريكية، فقد حدد روبنز، وجمال، وتيسلر، الوسيلة المثلى للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لاستعادة مصداقيتها، والتي تشمل الدفع بقوة من أجل وقف إطلاق النار في غزة، وزيادة المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، والمساعدة في تحقيق حل الدولتين. لكن هذا لن يحدث مع رفض بلينكن، قبول الاعتراف بفشل الدور الذي لعبته بلاده في المفاوضات، والتزام إدارة بايدن، باستخدام رصيف بحري لتوصيل المساعدات الإنسانية، بدلاً من إجبار إسرائيل على فتح الطرق المؤدية إلى القطاع، وهو الأمر الذي وصفه ستيفن سيملر، في مجلة فن الحكم المسؤول، بأنها مسرحية، هدفها صرف الانتباه عن الإخفاقات الأمريكية الخطيرة.
على العموم، تشير حقيقة أن الإدارة الأمريكية لن تغير موقفها من الحرب حتى بعد مرور أشهر من العنف والمعاناة؛ أن الاقتراحات حول كيفية إصلاح سمعتها، واسترداد مصداقيتها هي اقتراحات عقيمة في النهاية، حتى لو أصر الباحثون على أن فشلها في تغيير سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط، سيهدد دورها القيادي في المنطقة، وبالتالي سُيسمح لدول أخرى مثل الصين، بمزاحمة دورها. وعليه، يبدو واضحًا بالنسبة للولايات المتحدة، والدول الغربية الأخرى، مثل بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، أن التزامها بالدفاع عن إسرائيل من المساءلة الدولية، يأتي ضمن أولوياتها التي تتجاوز حدود هذه المخاوف.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك