أشرت في المقال السابق إلى الضرورات الاستراتيجية للرؤية الأمنية لدول الخليج العربي وكانت خلاصته أن تأسيس مجلس التعاون كان مبادرة أمنية خليجية، فضلاً عن رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي التي تم إعلانها في مارس 2024، ولكن مع أهمية تلك الرؤية فإن دول الخليج هي جزء من إطار إقليمي يضم اليمن والعراق وإيران، ذلك الإطار الذي كان -ولايزال- مثار اختلاف بين الباحثين، فمن باحثي دول الخليج الذين يرون أمن الخليج مرادفا لمجلس التعاون بدوله الست، إلى آخرين يرون أن الأمن الإقليمي يتجاوز الدول الست ليضم الدول الثلاث الأخرى إلى فريق ثالث يربط أمن المنطقة بأطر أكثر نطاقاً شرق أوسطية وعالمية، ولعل من أشهر من أشاروا إلى تلك الدوائر باري بوذان وهو مفكر أمريكي ولد في بريطانيا عام 1946 من خلال نظريته المعروفة «الهندسة الإقليمية للأمن: مركب الأمن الإقليمي» وهو رائد مدرسة كوبنهاجن في تحليل الدراسات الأمنية ومضمونها الاهتمام بالأبعاد غير العسكرية للأمن وإيلاء الأمن الإقليمي كمفهوم وسيط بين الأمن الوطني والأمن العالمي أهمية كبرى، بالإضافة إلى التركيز على بناء الوحدات المكونة للأمن الإقليمي والعلاقات فيما بينها.
فما أهمية تلك النظرية للأمن الإقليمي لدول الخليج العربية؟ إذا ما نظرنا إلى منطقة الخليج العربي بمفهوم تلك النظرية فهي تضم تسع دول وهي دول الخليج العربي وثلاث دول جوار، ولكن بالمفهوم الأمني يوجد تنظيم إقليمي وهو مجلس التعاون الذي تأسس جامعاً مانعاً، أي أنه يضم ست دول تجمعها سمات تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مشتركة ويمنع دخول أعضاء جدد إليه، وفي الوقت ذاته لدول الجوار الإقليمي ارتباطات أمنية مع أطراف خارج المنظومة فهناك علاقات إيران مع روسيا، والعراق مع الولايات المتحدة، بما يعني أننا أمام رؤى أمنية متعددة، مما يثير تساؤلات حول الآفاق الممكنة لوجود إطار إقليمي يضم كل أطراف المنظومة، وقد أسهبت الدراسات الغربية في تقديم مقارنات بين مناطق الأمن الإقليمي في العالم منها الآسيان والاتحاد الأوروبي ومدى إمكانية تطبيقها في منطقة الخليج العربي وجوارها، ولكن من أجل الوقوف على متطلبات بناء تلك المنظومة لا بد من العودة سريعاً إلى طبيعة المنطقة وتاريخ العلاقات بين أطرافها، فإذا ما قلنا مجازاً إقليم الخليج العربي، فإنه كان على الدوام يشهد تدخلات عسكرية خارجية بوتيرة أكثر من المناطق المماثلة في العالم والأسباب معروفة وجلها في ظل حالة الخلل في توازن القوى بين أطراف تلك المنظومة، فإن مفهوم الدولة القائد كان يطل برأسه من فترة زمنية لأخرى بشكل مثل تهديداً وجودياً لبعض أطراف تلك المنظومة من ناحية وتهديداً للمصالح الحيوية للدول الكبرى من ناحية ثانية، وهو ما استوجب التدخل العسكري، من ناحية ثانية فإن التباين بين طبيعة النظم السياسية لتلك المنظومة كان حائلاً دون نجاح أي مقترحات بشأن الاتفاق على إطار للأمن الإقليمي، من ناحية ثالثة فإن احتدام التنافس الدولي تجاه تلك المنطقة وإن اتخذ أشكالاً مختلفة- ولايزال- لم يتح الفرصة لتطوير أطر للتعاون الإقليمي، فالآن الأمن الغربي مقابل الاقتصاد من الشرق، وهو ما يعني زيادة حدة استقطاب أطراف المنظومة الأمنية الإقليمية.
ولا يعني ما سبق أن المنطقة ستتوقف عند هذا الحد سواء على المستوى الأمني أو حتى الفكري، لأن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن نظرية باري بوذان تجسد واقع ومستقبل تلك المنطقة بشأن محاولات بناء تفاهمات إقليمية أولها أن تأسيس أي إطار للأمن الإقليمي يتطلب بناء الوحدات المكونة له التي لا مناص من احتوائها، فاليمن على سبيل المثال هو امتداد جيوستراتيجي لأمن الخليج العربي بما يتطلب خططاً شاملة لربطه بتلك المنظومة بعد بناء الدولة، وكذلك العراق من أجل تحقيق توازن القوى الإقليمي، وصولاً إلى الحوار مع إيران، والذي يتخذ مسارات مهمة مع دول الخليج العربي.
وعود على ذي بدء لم يقدم بوذان تصورات علمية تصلح لكل مناطق العالم لأنه يؤكد أن الأمن الإقليمي يعد وليداً لبيئته الإقليمية بما يعنيه ذلك من أنه بغض النظر عن الصيغة التي تطمح إليها أطراف المنظومة الإقليمية والتي نجحت في أماكن أخرى من العالم بين دول ذات نظم سياسية متباينة، بل حتى على المستوى الاقتصادي وحجم الدول ذاتها ما بين دول صغرى ومتوسطة وكبرى، ولكن الهدف لتلك الدول كان محدداً وهو التعاون الإقليمي وتجنب التصعيد وحل الخلافات بالوسائل السلمية وإرساء آليات لتسوية النزاعات.
ومع أهمية ما سبق، فإن فكرة الحوار الإقليمي لن تنطلق من العدم، فهناك جهود بالفعل تتمثل في تطور العلاقات الخليجية- العراقية خلال السنوات الماضية التي اتخذت بعداً مؤسسياً وجماعياً من جانب دول الخليج العربي انطلاقاً من قناعة خليجية مؤداها أن دعم أمن واستقرار العراق يعد من أسس بناء منظومة الأمن الإقليمي، فضلاً عن إجماع دول الخليج بشأن حتمية تحقيق الاستقرار في اليمن سواء من خلال المبادرات السياسية أو الدعم الاقتصادي وتأييد أي جهد دولي يعزز تلك الرؤية وصولاً إلى تطور العلاقات الخليجية - الإيرانية، وهي الجهود التي يمكن البناء عليها وفق صيغة (6+2+1) أي حوار استراتيجي بين مجلس التعاون والعراق واليمن وإيران، فمسألة بناء الأمن الإقليمي كما يرها بوذان تبدأ ببناء الوحدات المكونة لذلك الأمن وبقدر ما تكون قوتها بقدر ما تكون فاعلية أطر الأمن الإقليمي، ثانياً مفهوم الدولة القائد وطموحاتها لا تصلح ضمن ذلك الإطار، صحيح أنه لكل دولة مصالحها وتأثيرها ومن الطبيعي أن تتكون أطر الأمن الإقليمي من دول متباينة الحجم والمستوى الاقتصادي ولكن الهدف هو إعلاء مفهوم الأمن المستدام كمتطلب للأمن القومي للدول، وأخيرا كيفية إدارة دول المنظومة الأمنية الإقليمية لاحتدام التنافس الدولي تجاه المنطقة.
وبغض النظر عن الأسس المطلوبة للتعاون الإقليمي وإطاره سواء تطلب الأمر تسوية بعض النزاعات الحدودية أو إبرام اتفاقيات أمنية، فإن المتطلب الأساسي لبناء ذلك التصور هو إجراءات بناء الثقة للتخلص من ميراث ممتد من الصراعات التي خرج بعضها عن السيطرة واستلزم تدخلات عسكرية، صحيح أنها كانت ضرورة للحد من طموحات بعض القوى الإقليمية للهيمنة، لكنها أدت في الوقت ذاته إلى تكريس الخلل في توازن القوى الإقليمي وهي المعضلة التي كانت -ولاتزال- التحدي الأكبر لأمن الخليج العربي.
إن حالة الاضطراب الإقليمي المزمنة التي طالت أمن الملاحة البحرية وأتاحت الفرصة لتهديد الجماعات دون الدول، وزيادة وتيرة التنافس الدولي تجاه المنطقة، والتحديات الاقتصادية التي تواجه دول العالم كافة جراء الأزمات المتتالية جميعها تحتم على دول المنطقة بدء حوار أمني إقليمي شامل.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك