طوال فترة الحرب على غزة أظهر المشرعون الأمريكيون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، دعمهم الثابت والقوي لإسرائيل. وعلى الرغم من استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وتسبب القصف والاحتلال في وقوع كارثة إنسانية مدمرة وصفها مسؤولو الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، مثل منظمة العفو الدولية، بأنها كارثة ذات أبعاد هائلة؛ فإن هذا الدعم لم يتغير. وبدلاً من ذلك، ومع تقدم الجهود الرامية إلى تحقيق المساءلة الدولية عن جرائم الحرب المرتكبة في غزة أمام محكمتي العدل الدولية، والجنائية الدولية، لجأ أعضاء الكونجرس إلى تهديد الأخيرة بفرض عقوبات في محاولة لإسكات الانتقادات الموجهة لإسرائيل.
وأثار قرار كريم خان، المدعي العام للجنائية الدولية في مايو 2024، بإصدار أوامر اعتقال دولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف غالانت، بسبب ارتكابهما جرائم حرب بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة، غضب الجمهوريين بالكونجرس، الذين ردوا بإصدار تهديدات مباشرة ليس ضد خان فحسب، بل أيضًا ضد القانونيين في المحكمة. وفي أوائل يونيو، صوت مجلس النواب الأمريكي بأغلبية كبيرة لتمرير تشريع يقوده الجمهوريون لفرض عقوبات على الجنائية الدولية.
وعلى الرغم من احتمالية رفض مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، تمرير المزيد من هذه القوانين لمعاقبة محكمة مستقلة لجرأتها على التحقيق في جرائم حرب اقترفتها حليفة للولايات المتحدة؛ يظل حديث إدارة بايدن عن العمل مع أعضاء الكونجرس، بمن في ذلك الجمهوريون، لتعقيد عمل المحكمتين الجنائية الدولية، والعدل الدولية، هو ما يثير اهتمام القانونيين والحقوقيين، وخاصة أن واشنطن، لطالما أعلنت نفسها حامية لحقوق الإنسان والقانون الدولي؛ فضلا عن أن ما ارتكبته إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني هي جرائم حرب موثقة.
ومنذ قيامها، قدمت الولايات المتحدة، لإسرائيل مساعدات اقتصادية وعسكرية بقيمة 310 مليارات دولار، مما يجعلها أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ عام 1948. وأضاف جوناثان ماسترز، وويل ميرو، من مجلس العلاقات الخارجية، أنه وبموافقة الكونجرس، تعهد البيت الأبيض، بتزويد إسرائيل بتمويل عسكري بقيمة 3,8 مليارات دولار حتى عام 2028 على الأقل. وفي عام 2024 قفز هذا الرقم إلى أكثر من 12,5 مليار دولار.
ومنذ أكتوبر2023، تم توثيق استخدم الجيش الإسرائيلي للأسلحة الأمريكية لمهاجمة العديد من الأهداف المدنية، بما في ذلك المدارس، والمستشفيات، والمساجد، والكنائس ومراكز اللاجئين. وعلى الرغم من اعتراف الخارجية الأمريكية، بأنه من المرجح استخدام ذخائر أمريكية في جرائم حرب إسرائيلية؛ فقد أقر مجلسا النواب والشيوخ العديد من مشاريع قوانين التمويل العسكري، بما في ذلك مليارات الدولارات لقوات الاحتلال.
ونظرا إلى ضخامة كتلة المشرعين المؤيدين لإسرائيل داخل الكونجرس، والذين دأبوا على دعم الهجوم العسكري على غزة بالرغم من المأساة الإنسانية التي تسبب فيها؛ فمن غير المستغرب رفض هذه الكتلة نفسها قرار خان، بإصدار أمر اعتقال بحق نتنياهو، وغالانت، للمثول أمام الجنائية الدولية. وحتى قبل إعلان هذا القرار، بعث 12 من كبار الجمهوريين في مجلس الشيوخ، من بينهم توم كوتون، من أركنساس، وتيد كروز من تكساس، وماركو روبيو، وريك سكوت من فلوريدا، وميتش ماكونيل، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، برسالة تهديد إلى المدعي العام شخصيًا وأفراد عائلته ومعاونيه بالعقوبات وتجميد الأصول في الولايات المتحدة، إذا مضى قُدما بطلب أوامر الاعتقال، وختموا تلك الرسالة بإنذار لقد تم تحذيرك.
وعليه، لم يكن غريبا أن يؤدي عدم رضوخ المحكمة، للتهديد إلى إثارة حملة ضدها ومحاولة فرض عقوبات عليها من قِبَل أعضاء مؤيدين لإسرائيل داخل الكونجرس. وفي مشروع قانون للسنة المالية 2025 والذي أصدرته لجنة الاعتمادات بمجلس النواب في أوائل يونيو 2024 -بالإضافة إلى 3.3 مليارات دولار من التمويل العسكري الممنوح لإسرائيل- دعا التشريع إلى حظر التمويل الأمريكي لوكالة الأونروا، والمحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وكذلك لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة ضد إسرائيل.
واستمرارا، ففي الرابع من يونيو، أصدر مجلس النواب القرار رقم 8282، الذي يسعى كما أوضح إيثان ماير ريتش، من المركز العربي واشنطن دي سي، إلى فرض عقوبات على الأشخاص الذين تعتبرهم الولايات المتحدة ساعدوا في أي جهد من قبل الجنائية الدولية، للتحقيق والاعتقال والتحقيق أو مقاضاة شخص محمي، في إشارة إلى خان، ومعاونيه من القانونيين. وأشاد جمهوريون بارزون في مجلس الشيوخ؛ بمن فيهم كروز، وكوتون، وروبيو، بهذا التشريع، وأكدوا التزامهم بـ«إسرائيل اليوم والولايات المتحدة غداً.
وفي هجوم مستهدف آخر ضد الجنائية الدولية، أرسل كوتون، وسكوت، بالإضافة إلى مشرعين جمهوريين في مجلس الشيوخ، أمثال مايك براون من ولاية إنديانا، وجي دي فانس من أوهايو؛ في الخامس من يونيو، رسالة إلى المدعي العام الأمريكي ميريك جارلاند، يحثونه فيها على التحقيق مع خان لاتهامه -وفق زعمهم- بانتهاك القانون الأمريكي من خلال دعم الإرهاب واستهدافه لمسؤولين إسرائيليين، كما زعموا أن اتهامات المحكمة دون أي دليل، مشيرين إلى أن قد يكون هناك تنسيق واسع النطاق بين الجنائية الدولية وحماس.
ولم يكتف أعضاء الكونجرس بتقديم تشريع يخلط بين انتقاد سياسات إسرائيل ومزاعم معاداة السامية ويتجه عن قصد نحو فرض قوانين تنطوي على ممارسة أقسى أنواع التمييز ضد اللاجئين الفلسطينيين، بل حذرت لجنة مكافحة التمييز الأمريكية العربية (ADC)، من أن قانون التوعية بمعاداة السامية، الذي تم إقراره بأغلبية 390 صوتًا، مقابل 21 صوتا في مجلس النواب الأمريكي في بداية مايو 2024، يخلط بشكل خطير بين انتقاد إسرائيل، والتحيز ضد اليهود، ومعاداة السامية.
وفي تناقض واضح، قدم النائب الجمهوري اليميني المتطرف مات جيتس، من فلوريدا، القرار رقم 8629 – أو ما يُسمى بـقانون حماية المناطق الأمريكية من الهجرة الفلسطينية، والذي يفرض حظرًا لمدة عامين على المهاجرين المحتملين من فلسطين إلى الولايات المتحدة على أساس أنه -وفقًا له- يعتبر الفلسطينيين خطيرين جدًا، بحيث لا يُسمح لهم بدخول البلاد، بما في ذلك اللاجئون المدنيون الذين نزحوا بسبب الهجمات الإسرائيلية باستخدام القنابل أمريكية الصنع.
وبالتزامن مع محاولات معاقبة الجنائية الدولية؛ بدا تملق كبار الساسة الأمريكيين للقادة الإسرائيليين واضحا؛ حيث تمت دعوة نتنياهو -على الرغم من ارتكابه انتهاكات خطيرة للقانون الدولي- من قبل هيئة تشريعية مستقلة؛ لإلقاء كلمة أمام جلسة مشتركة للكونجرس في 24 يوليو القادم، وتحديدا من قبل رئيسي مجلسي النواب والشيوخ. وفي تناقض صارخ مع الاتهامات التي طرحها خان، كتب كل من رئيس مجلس النواب مايك جونسون، وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، إلى نتنياهو معربين عن أملهما في أن يشاركا الحكومة الإسرائيلية رؤيتها في الدفاع عن الديمقراطية، ومكافحة الإرهاب، وإرساء سلام عادل ودائم في المنطقة.
وعلى الرغم من أن غالبية المشرعين المؤيدين لإسرائيل في واشنطن، ينتمون إلى الحزب الجمهوري، فإن هناك عددا من الأعضاء الديمقراطيين البارزين يدافعون أيضًا عن الانتهاكات الإسرائيلية، ويرحبون بنتنياهو لإلقاء كلمة أمام مجلسهم. ومن بين هؤلاء زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، على الرغم من دعوته في مارس 2024 إلى إجراء انتخابات إسرائيلية جديدة من أجل الإطاحة بـ نتنياهو، معترفا بأن بقاءه بمنصبه السياسي سمح له بأن يكون له الأولوية على حساب حماية مصالح إسرائيل ذاتها. ولأن هذا النائب تحديدا بدا مستعدًا للغاية، لغض الطرف عن الخسائر المدنية الدامية في غزة، أصر في يونيو 2024 على انضمامه إلى الدعوة المقدمة لنتنياهو للقدوم إلى واشنطن، مؤكدا أن علاقة بلاده مع إسرائيل متينة، وتتجاوز حدود أي شخصية حتى لو كان رئيس وزراء على حد قوله.
في مقابل ذلك، رفض هذه الدعوة العديد من الساسة الأمريكيين. وانتقد السيناتور كريس هولين، وهو ديمقراطي وسطي، ممثل عن ولاية ماريلاند، وعضو بارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، الدعوة، متسائلاً عن سبب رغبة واشنطن في مكافأة رئيس وزراء يتباهى بمناشدات الرئيس الأمريكي له بوقف الحرب والتهدئة. كما عارضها العديد من المشرعين، وتعهدوا بمقاطعة ظهور نتنياهو، تحت أروقة الكونجرس احتجاجًا على حرب إسرائيل في غزة، ورفض الولايات المتحدة اتخاذ إجراءات ذات معنى لإنهاء الصراع برمته.
وأعلن النائب الديمقراطي في الكونجرس عن ولاية كاليفورنيا، رو خانا، عدم حضوره لهذا الحدث الذي اعتبره بمثابة محاضرة أحادية التوجه، وذهب السيناتور عن ولاية فيرمونت والمرشح الديمقراطي السابق للرئاسة بيرني ساندرز، إلى أبعد من ذلك من خلال وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه مجرم حرب، ولا ينبغي دعوته إلى واشنطن.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أنه من المتوقع أن يرفض عدد كبير من الديمقراطيين داخل الكونجرس حضور الاستماع لتصريحات نتنياهو، فقد أوضحت كاترينا سمعان، وميشيل ستين، من شبكة سي إن إن، أن إرسال وفد من الحزبين بقيادة الديمقراطي ستيني هوير، إلى إسرائيل مسبقًا مفاده إظهار دعم ملحوظ لقوات الاحتلال في استمرار حربها على غزة. ويوضح هذا كيف أن كتلة الدعم لإسرائيل لا تزال قوية للغاية، على الرغم من حجم الغضب الدولي المناهض للحرب على القطاع.
وتفسر هذه الضغوط السياسية أيضًا سبب قيام إدارة بايدن -على الرغم من إعلان معارضتها لإصدار عقوبات ضد الجنائية الدولية- باسترضاء المشرعين المؤيدين لإسرائيل من خلال تبني مشاعر مشتركة قائمة على منع المحكمة من محاسبة أي من القادة الإسرائيليين جراء قراراتهم وأفعالهم. وعلقت الخارجية الأمريكية، بأنها على استعداد للعمل مع أعضاء الكونجرس، بما في ذلك الجمهوريون، حول سبل منع المحكمة من أداء واجباتها والتحقيق بشأن انتهاكات القانون الدولي من جانب إسرائيل.
على العموم، على الرغم من وجود بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي الذين اتخذوا موقفًا أخلاقيًا متضامنًا مع الفلسطينيين، مثل بيرني ساندرز، الذي أعلن أن الجنائية الدولية، والعدل الدولية، على حق في التحقيق في الجرائم المرتكبة خلال الحرب الإسرائيلية في غزة والأراضي المحتلة، إلا أن الهيئتين التشريعيتين في واشنطن تضمّان أغلبية كبيرة من السياسيين الذين يرفضون هذا الموقف، بل ويفضلون الاستمرار في تزويد إسرائيل بالدعم العسكري والاقتصادي الذي تطلبه.
ومع أن أغلبية الرأي العام الأمريكي الآن تعارض استمرار الحرب وتتعاطف أكثر مع معاناة المدنيين الفلسطينيين المحاصرين في غزة، فإن قيام كبار المشرعين الأمريكيين بدعوة نتنياهو للتحدث في واشنطن يعكس مدى عدم توافق هؤلاء الساسة مع آراء ناخبيهم، كما يظهر ذلك رفضهم التمسك والالتزام بالمعايير والمبادئ التي لطالما طالبت بها الولايات المتحدة، الدول والحكومات الأخرى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك