تنظر محكمة استئناف فيدرالية بكاليفورنيا قضية رفعتها مؤسسة حقوقية ضد الرئيس بايدن ووزيريه للخارجية والدفاع، «فمركز الحقوق الدستورية» يقاضي الثلاثي منذ شهر نوفمبر الماضي، ويتهمهم بالضلوع في «المساعدة والتحريض» على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
وقد استأنف المركز حكم محكمة الدرجة الأولى، والذى رفض الدعوى في فبراير الماضي «لسبب إجرائي»، وإن أكد بوضوح أن ما يجري في غزة «قد يرقى لجريمة الإبادة الجماعية وينتهك القانون الدولي»، بل دعا إدارة بايدن إلى دراسة تبعات تأييدها «اللا محدود» للعدوان على غزة، فالقاضي وقتها رفض الدعوى باعتبار أنها «تخرج عن نطاق صلاحيات المحكمة»، فلأن القضية المرفوعة ضد الثلاثي تطالب المحكمة بوقف شحن المزيد من الأسلحة والذخيرة والقنابل لإسرائيل، قال القاضي إن المحكمة «ليس من صلاحياتها وضع قيود على قرارات السياسة الخارجية». وقد استأنف «مركز الحقوق الدستورية» الحكم، فباتت القضية في جوهرها تتعلق بالصلاحيات الدستورية للمؤسستين التنفيذية والقضائية.
«ومركز الحقوق الدستورية» هو إحدى المؤسسات الحقوقية الأمريكية المعنية باحترام الحقوق الدستورية للمواطنين الأمريكيين، فضلًا عن حماية حقوق غيرهم بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهو يدافع مثلًا عمّن يتعرضون للعنصرية والتمييز داخل المجتمع الأمريكي، بمَن في ذلك المهاجرون الجدد الذين وصلوا إلى أمريكا بطرق غير قانونية. كما أنه من أهم المؤسسات التي قاضت الحكومة الأمريكية بخصوص المعتقلين في جوانتنامو، وبخصوص الإفراط في استخدام الطائرات المسيرة لقصف عدد من الدول منذ سبتمبر 2001.
وفي هذه القضية يقاضي المركز الرئيس الأمريكي ووزيري الدفاع والخارجية نيابة عن مجموعة من الجمعيات الحقوقية المدافعة عن حقوق الأطفال والنساء، فضلًا عن عدد من الأفراد الفلسطينيين الذين فقدوا عائلاتهم في غزة، لكن القضية تأخرت قليلًا أمام محكمة الاستئناف حين طالب المركز باستبعاد القاضي الذى كان سينظر في القضية لأنه كان قد سافر إلى إسرائيل في مارس الماضي ضمن وفد قضائي لدراسة «خبرة إسرائيل في احترام القانون الدولي الإنساني» (!)، وما إن نجح المركز فعلًا في استبدال القاضي حتى راح دفاع إدارة بايدن يطالب برفض الدعوى على أساس أن دعم إسرائيل هو من قرارات السياسة الخارجية التي تختص بها المؤسسة التنفيذية وحدها دون باقي المؤسسات الفيدرالية، وفق الدستور، فضلًا عن عدم وجود أي قانون فيدرالي يعطي المدعين الحق في مقاضاة الإدارة.
ومن الجدير بالذكر أن دفاع الإدارة أكد أن الولايات المتحدة «ليست مسؤولة» عن سلوك حكومة أجنبية، أي الحكومة الإسرائيلية. وكأن الإدارة حين تشحن القنابل والذخيرة لإسرائيل، وسط حرب دائرة على مدى ثمانية أشهر، لا تعرف بالضبط ما إذا كانت ستستخدمها للقتل أم ستضعها في المتاحف ليشاهدها الناس!
لكن محامي الادعاء أصروا على أنه «في الجوهر من صلاحيات القضاء الفيدرالي النظر في سلوك المؤسسة التنفيذية وأدائها وما إذا كانت تساعد وتحرض مَن لديه النية المبيتة لتدمير شعب بأكمله».
وقالوا: «إن من صميم مسؤوليات القضاء أن ينظر في مثل ذلك السلوك وفق التعريف الدولي للإبادة الجماعية والتواطؤ مع مرتكبيها». كما أكد محامو الادعاء أن المحكمة العليا كانت قد أرسلت سابقة قالت فيها إن «المؤسسة التنفيذية ملزمة بعدم انتهاك القانون (الأمريكي والدولي بالمناسبة)، حتى في أوقات الأزمات».
ولهذه القضية نتائجها المهمة، بغض النظر عن الحكم الذي سيصدر فيها، فهي تمثل حلقة من سلسلة من التراكمات البطيئة واللازمة لإحداث أي تحول معتبر في السياسة الأمريكية على المدى الأطول نسبيًّا.
ففي استطلاع أجرته مؤسسة جالوب تبين أن نسبة الأمريكيين الذين يؤيدون «العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة» قد انخفضت من 50% في نوفمبر الماضي إلى 36% فقط، بينما ارتفعت نسبة من يرفضونها من 45% إلى 55%. أما الديمقراطيون، حزب بايدن، الرافضون لحرب الإبادة الإسرائيلية فقد ارتفعت نسبتهم من 63% في نوفمبر إلى 75% اليوم.
ولتلك الأرقام دلالتان، أولاهما أن الرافضين لجرائم إسرائيل ليسوا فقط الأمريكيين العرب والمسلمين ولا التقدميين الأمريكيين وحدهم، وإنما قطاعات ودوائر أوسع. بل لعلها المرة الأولى التي صار فيها دعم إسرائيل بلا شروط عبئًا على صاحبه في أحد الحزبين الكبيرين. أما ثانيتهما فقد صارت مواقف إدارة بايدن مقطوعة الصلة تمامًا عن قاعدة ناخبيها الديمقراطيين في عام انتخابي.
والتحولات التي تشهدها أمريكا بخصوص إسرائيل لم تعد تقتصر على الرأي العام الأمريكي عمومًا، إذ امتدت لتشمل انقسامًا حقيقيًا بين اليهود الأمريكيين، وهو الانقسام الذي لم يعد جيليًا فقط. فليس جديدًا أن هوة كبيرة صارت تفصل بين الأجيال الشابة من اليهود الأمريكيين والأجيال الأكبر. فتلك الأخيرة تعتبر دعم إسرائيل أحد مكونات هويتها، بينما لم تجد الأجيال الشابة في إسرائيل سوى دولة مدججة بالسلاح تتبنى نهجًا عنصريًا تجاه الفلسطينيين يبغضون مثيله في بلادهم. ذلك أن الأجيال الشابة لا تجد غضاضة في الإفصاح عن مواقفها بل وتنظيم نفسها لمعارضة إسرائيل.
{ باحثة مختصة في الشؤون الأمريكية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك