لاريب أن التكنولوجيا المالية التي توصف بأّنها المنتجات والخدمات التي تعتمد على التكنولوجيا المعاصرة لتحسين نوعية الخدمات المالية التقليدية، وتتميز برخصها النسبي وسهولة وسرعة وصول عدد كبير من الافراد إليها، وأنها تعمل على تغيير الطريقة التي يتم بها النظر إلى الخدمات المالية وأساليب تطويرها، والترويج لها، وتقديمها، واستهلاكها، وأنها جمعت بين تقنيات التمويل الإلكتروني، وتقنيات الإنترنت، وخدمات الشبكات الاجتماعية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، وتحليلات البيانات الضخمة، قادت إلى نقلة نوعية في الخدمات المالية في العالم.
فقد أدت إلى تعزيز قدرات المؤسسات على التعامل مع الخدمات المالية عبر الهاتف المحمول والأجهزة والألواح الذكية، مما يسر حصول المؤسسات والأفراد على القروض لتمويل المشروعات، وتحويل واستلام الأموال، ودفع أثمان السلع والخدمات، وأوجدت فرصا ممتازة لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة بما فيها المشروعات شديدة المخاطر.
وقد كان إسهامها متميزا وواعدا بشكل واسع في دعم رواد الأعمال الذين يمتلكون أفكارا إبداعية إلا أنهم لا يمتلكون المال الكافي لتنفيذها، ويسرت لهم عمليات تقييم كفاءتهم المالية وقدرات مشروعاتهم على النجاح وسداد التزاماتهم المالية عبر الوسائل الرقمية، بشكل أسرع وأكثر كفاءة، وهذا لا يعزز راحة وأمان المعاملات فحسب، بل يفتح أيضاً طرقاً جديدة للشركات الصغيرة للوصول إلى قاعدة عملاء واسعة تتجاوز الحدود الوطنية لتنفتح على مستوى الأسواق العالمية. كما أن خدماتها متاحة لمجموعة أكبر من المقترضين، وبكلفة أقل بكثير مما تطلبه البنوك، حيث إن شركات التكنولوجيا المالية ومنصاتها المتخصصة بالإقراض، تتميز بتدني مستوى تكاليفها التشغيلية، نتيجة عدم حاجتها إلى الفروع المادية والأعمال الورقية، وتوظيف أعداد كبيرة من الموارد البشرية.
كما أن التكنولوجيا المالية المعززة بالذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي أدت إلى فتح المزيد من الآفاق لتعزيز التنمية المستدامة عبر إسهامها الفاعل في إطلاق إبداعات رواد الأعمال، الأمر الذي أسهم في توسيع نطاق أعمال رواد الأعمال دون تكبد تكاليف كبيرة، بالإضافة إلى ذلك، ساعدت خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحليل كميات ضخمة من البيانات لتحديد الأنماط والاتجاهات في الأسواق وبمختلف المجالات، مما يساعد رواد الأعمال على تحويل أفكارهم إلى مشروعات ريادية منتجة، وتحفيزهم لاتخاذ قرارات جريئة تعتمد على البيانات، وتحسين عملياتهم، وتمكينهم من اختراق الأسواق.
ذلك ما شهدته أسواق الدول المتقدمة وعدد من الدول النامية الساعية نحو التقدم، والتي تعد ريادة الأعمال من القضايا المهمة والمؤثرة في نمو اقتصاداتها، لذا تسعى حكوماتها ومؤسسات المجتمع المدني فيها إلى تلبية متطلباتها التشغيلية، ورعاية وتحفيز جيل جديد من رواد الأعمال، سواء من أصحاب الأعمال أو ممن يتمتعون بروح المبادرة، ويمتلكون مهارات تؤهلهم للأبداع والابتكار.
أما في الوطن العربي فإن الآمال كانت كبيرة في أن تسهم شركات التكنولوجيا المالية في دعم حقيقي لرواد وريادة الأعمال، بما يمكنهم من تحويل أفكارهم إلى مشروعات منتجة تخدم حاضر ومستقبل بلادنا العربية، إلا أن ذلك لم يتحقق حتى بالحدود الدنيا، على الرغم من انتشار العديد من شركات التكنولوجيا المالية في البلاد العربية وحصولها على الدعم والتحفيز الرسمي والشعبي واستفادتها من البيئات التنظيمية التجريبية وما مثلته لها من حاضنات أعمال موسعة، فضلا عما وفرته الحكومات من تشريعات مواتية لانطلاقتها، إلا أن الواقع يشير إلى أن الكثير منها لاسيما المتخصصة بالتمويل، تحول إلى شركات مالية تقليدية تقدم قروضا وتمويلات صغيرة بفوائد مرتفعة وبشروط وآليات لا تختلف كثيرا عن شروط وآليات البنوك التقليدية، وبالتالي فإنها ابتعدت عن نموذج التكنولوجيا المالية الذي تشير إليه الأدبيات الاقتصادية والمالية المعاصرة، الذي تنتشر تطبيقاته في الدول الأوروبية والدول المتقدمة عموما، والذي يعتمد نظم التمويل الجماعي والتمويل من نظير إلى نظير، الأمر الذي يتطلب من الحكومات العربية وبنوكها المركزية الاستفادة من تجربة مملكة البحرين في هذا المجال والاستجابة السريعة لدعوة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين المعظم في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في المنامة، في إطلاق وتوجيه شركات التكنولوجيا المالية التي تحقق نهضة اقتصادية حقيقية عبر دعم ريادة الأعمال، ومراجعة وتقييم نشاطات شركات التكنولوجيا القائمة فيها، والتأكد من مدى إسهامها في دعم ريادة الأعمال التي يؤمل لها أن تكون أداة رئيسية في تحقيق التنمية المستدامة، وخاصة أن نمو وتطور شركات التكنولوجيا المالية ينبغي أن يكون مدفوعا باحتياجات وتوقعات العملاء المتغيرة باستمرار، ومع تقدم التكنولوجيا وتغير سلوكيات المستهلكين، ينبغي لشركات التكنولوجيا المالية التكيف لتلبية هذه المتطلبات المتطورة.
وحيث إن رواد وريادة الأعمال تعد قاطرة النمو والتطور الحالي والمستقبلي في العالم أجمع، ولا يمكن أن تكون البلاد العربية بعيدة عن هذه الرؤية، مما يتطلب أن تكون شركات التكنولوجيا المالية العربية في طليعة المؤسسات التي تحتضن وتدعم أفكار رواد الأعمال وتوفر لهم التمويل الذي يحولها إلى مشروعات قابلة للتطور والنهوض.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك