يصادف شهر يوليو 2024 الذكرى السنوية الثمانين لمؤتمر «بريتون وودز»، الذي شهد اجتماع مسؤولي أربع وأربعين دولة معظمها غربية في ولاية نيو هامبشاير الأمريكية؛ لتدشين نظام اقتصادي دولي جديد عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. وبالإضافة إلى دوره في إنشاء مؤسسات رائدة، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، أشار مجلس العلاقات الخارجية إلى كيف عزز كذلك وضع الدولار الأمريكي على الجنيه الاسترليني، وجميع الوحدات النقدية الأخرى؛ باعتباره العملة الاحتياطية الرائدة في العالم، وتحديدا من خلال إنشاء نظام أسعار الصرف، والذي يربط كل دولة قيمة عملتها بالدولار.
وفي حين أن العملة الأولى المستخدمة في التجارة العالمية والمعاملات المالية هي الدولار الأمريكي؛ فإن كل تحدٍ للمكانة الجيوسياسية الأمريكية يطرح معه تساؤلات حول استمرار هيمنة الدولار. ومع احتدام المنافسة مع الصين، وصياغة النظام السياسي العالمي المتعدد الأقطاب، وتضاؤل الوزن الدبلوماسي الأمريكي؛ أضحى موضوع التخلص من الدولار موضع مناقشة متزايدة، بما في ذلك من قِبَل المحللين الاقتصاديين الغربيين.
وفي ضوء الطريقة التي استخدم بها الغرب أدواته الاقتصادية لعزل روسيا عن جزء كبير من الاقتصاد العالمي عقب دخولها حرب أوكرانيا في 2022، سجل ألكسندر وايز، من مصرف جيه بي مورجان، تزايد عدد الحكومات الأخرى التي أصبحت قلقة بشأن اعتمادها أكثر من اللازم على العملة الأمريكية، ومع ارتفاع أسعار الفائدة يُصبح أيضا الدولار القوي أكثر كلفة بالنسبة إلى الدول الناشئة؛ ومن ثم تزايد احتمالات وجود مشهد أكثر تنوعا للعملة الدولية.
ومع ذلك، وبالنسبة إلى مثل هذا التحليل المعاصر، تشير جميع الدلالات إلى بقاء الدولار الأمريكي بشكل مريح العملة الرئيسية لممتلكات الاحتياطية الأجنبية، والمعاملات الدولية. وعلى خلفية ذلك، فضلاً عن المزايا الجيواقتصادية والتنظيمية الرئيسية التي يحظى بها الدولار مقارنة بمنافسيه؛ أوضح جاريد كوهين، في مقال نشرته مجلة فورين بوليسي، تحت عنوان لا تراهن ضد الدولار، أن العالم بعيد كل البعد عن نقطة المنعطف، فيما يتصل باستمرار هيمنة العملة الأمريكية على حركة التمويل والتجارة الدوليين.
وبالفعل، وافقت مؤسسات مثل المجلس الأطلسي على مثل هذه التقييمات، مما يشهد أيضًا على أن وضع الدولار الأمريكي باعتباره العملة الاحتياطية الأساسية الآمنة على المدى القريب والمتوسط. وبينما رأى كوهين، أن منافسي الولايات المتحدة، وشركاءها على حد سواء يدفعون حدود الحكم الذاتي في إطار نظام قائم على الدولار؛ أكد المجلس الأطلسي أنه على الرغم من المناقشات الكثيرة حول تعزيز مجموعة دول البريكس، لعملية إلغاء الدولار، فإنها لا تزال غير قادرة على إحراز تقدم كبير لتقليل الأولوية الاقتصادية للولايات المتحدة.
من جانبه، أوضح وايز، أن التخلص من الدولار على نطاق واسع، أي التراجع الكبير لاستخدامه في التجارة العالمية والمعاملات المالية -والذي بدوره يقلل من هيمنة سوق رأس المال العالمي المقوم به يتركز في الولايات المتحدة- يُمكن أن يحدث هذا من خلال سيناريوهين محتملين، الأول يتعلق بـالأحداث السلبية التي تقوض السلامة والاستقرار الملحوظين للدولار، وتهدد أيضًا مكانة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية رائدة في العالم. بينما يدور الثاني حول تطورات إيجابية خارج واشنطن تعزز مصداقية العملات البديلة، وأبرزها ما تشهده الصين، من إصلاحات اقتصادية وسياسية، مضيفا أن مثل هذا التراجع عن الدولار من شأنه أن يغير ميزان القوى، بشكل أساسي في الاقتصاد العالمي، كما أنه لن يؤدي فقط إلى انخفاض واسع النطاق وضعف أداء الأصول المالية الأمريكية، بل كذلك خلق ضغوط تضخمية على الدولار من خلال رفع كلفة السلع والخدمات المستوردة.
وفي هذا السياق، أشار كوهين، إلى تنامي عدد الدول -بما في ذلك دول الشرق الأوسط- التي تسعى لأن تصبح أقل اعتمادا على الدولار في التجارة، وبالتالي تنأى بنفسها عن أنظمة الدفع الأمريكية في ضوء الممارسات الاقتصادية الغربية التي تعاقب منافسيها مالياً لأسباب جيوسياسية. ولاحظ المجلس الأطلسي، كيف أن الدول التي تنتمي إلى مجموعة البريكس، (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا، وتوسعت في 2024 لتشمل السعودية، والإمارات، ومصر، والأرجنتين، وإيران، وإثيوبيا)؛ تشجع بنشاط استخدام العملات الوطنية في التجارة والمعاملات، مثل الرنمينبي الصيني.
وفي حالة العملة الصينية، التي باتت تُستخدم الآن في أكثر من نصف مدفوعات بكين، ومن خلال نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود(CIPS) ، والذي يربط بشكل مباشر 119 مشاركًا وبشكل غير مباشر 1304 آخرين؛ سجل المجلس الأطلسي، كيف حل الرنمينبي محل الدولار، باعتباره العملة الأكثر تداولًا بروسيا في 2023، في حين أنشأت البرازيل، وجنوب إفريقيا، خطوط مبادلة مع الصين للعملة لاستخدامها في التجارة الثنائية المباشرة.
وعلى الرغم من ذلك، أشارت ميرا تشاندان، من بنك جيه بي مورجان، إلى كيف يبدو تدني نسبة اليوان الصيني ملفتا للنظر، حيث لم يشكل إلا نسبة 2.3% من المدفوعات الدولية عبر نظام سويفت، مقارنة باستحواذ الدولار الأمريكي على 43% من تلك المدفوعات. وفي هذا الصدد، أشار كوهين، إلى أن العالم بأكمله لم يشهد حتى الآن أي جهود متضافرة تتسم بالتناسق؛ لمواجهة السيادة الراهنة والمستمرة للدولار.
ومع الإشارة إلى أن الحديث الفعلي عن إنشاء عملة موحدة لمجموعة بريكس، بغرض منافسة الدولار، لم يتحقق بعد على أرض الواقع، فإن نصيب الأصول المقومة بالدولار الأمريكي من احتياطيات البنوك المركزية العالمية لا يزال يمثل حاليا 58% من تلك الاحتياطيات، وهو أعلى كثيراً من ثاني أكبر عملة، وهي اليورو، بنسبة 21%. علاوة على ذلك، لا يزال الدولار نفسه يمثل 88% من جميع معاملات الصرف الأجنبي، وفقاً لبنك التسويات الدولية، وهي نسبة أشار روبرت إتش ويد، من كلية لندن للاقتصاد، إلى أنها أقل قليلاً فقط مما كانت عليه في عام 1989، وبالتالي فتلك النسبة شهادة على قوة ومرونة الدولار.
وفي تفسيره لمبررات تلك المرونة، أشار كوهين، إلى أنه على الرغم من تراجع القيادة الاقتصادية والسياسية الدولية الأمريكية خلال السنوات الخمس والثلاثين الماضية فإن الاقتصاد الأمريكي يظل الأكبر عالميا، مع كون أسواقه للأوراق المالية أكثر عمقًا واستقرارا ومؤسساته المالية هي الأكثر ثقة، وبالتالي أصبحت تلك العملة ملاذًا ماليًا آمنًا ووسيلة للتبادل ومخزن أكثر موثوقية للقيمة عالميا. بالإشارة إلى المزايا الأخرى التي يتفوق بها الدولار على منافسيه المحتملين؛ سلط وايز، الضوء أيضًا على حقيقة أن واشنطن تمتلك شبكة عالمية طويلة الأمد من التحالفات والشراكات، والتي تم ترسيخ العديد منها في اتفاقية بريتون وودز العالمية، ولا تستطيع الصين، وروسيا، والهند، ودول أخرى أن تضاهي تلك التحالفات من حيث الاتساع والنطاق.
مقارنة بالطموحات الاقتصادية الأكثر توافقًا بين الولايات المتحدة وحلفائها السياسيين في العالم الغربي، فإن المصالح المتنافسة بين دول بريكس، قد تعني أن التعاون الكامل في السياسات الاقتصادية ربما يمثل تحديًا أكثر تعقيدًا. وأشار المجلس الأطلسي، إلى كيف أن الهند، المنافس السياسي والاقتصادي للصين -لكنها أيضًا شريك أساسي داخل مجموعة بريكس- تجنبت أي مبادرة من شأنها أن تساعد في دعم الرنمينبي في الاقتصاد العالمي، وركزت اهتمامها بدلاً من ذلك على إقامة اتفاقيات تجارية يتضمنها تبادل بالروبية العملة الخاصة بها. ومع رغبة الاقتصادات الناشئة أيضًا في الاستمرار في الاستفادة من العلاقات المالية مع الولايات المتحدة والغرب الأوسع، يظل الدولار الأمريكي راسخًا في احتياطيات البرازيل الأجنبية، وصفقات الصادرات التجارية، وأيضًا العملة المهيمنة في التجارة العالمية لجنوب إفريقيا.
وعليه، أكد كوهين، أن العقود الثمانية التي انقضت منذ مؤتمر بريتون وودز، كانت مصحوبة بتنبؤات لا نهاية لها حول زوال الدولار الوشيك، وذلك منذ أن قرر ريتشارد نيكسون، فك الارتباط بين الدولار والذهب في عام 1971، حتى مع ظهور اليورو في فترة التسعينيات، أو أثناء صعود الاقتصاد الصيني في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، مضيفا أنه بدلاً من تركيز الانتباه على سيناريوهات نزع الدولرة، يجب التفكير بعقلانية فيما إذا كان سيكون هناك حدث أو أزمة أو تقنيات جديدة سوف تؤدي لهذا السقوط للدولار. وهنا وينبغي النظر إلى الكيفية التي يعمل بها المنافسون الاقتصاديون للولايات المتحدة على دفع حدود النظام المالي للعمل على انهيار مرحلة الحرب الباردة في الوقت الراهن.
وبالإشارة إلى كيفية توقيع الصين، مع المملكة العربية السعودية، اتفاقا يتيح مبادلة العملات المحلية بقيمة 50 مليار يوان (7 مليارات دولار) في نوفمبر 2023، كإجراء ضد العقوبات الاقتصادية الأمريكية المحتملة التي تستهدف مبيعات النفط، فضلاً عن الاستخدام المتزايد للعملات الرقمية التي تعمل خارج نطاق اللوائح الغربية؛ أوضح كوهين، أنه إذا كان منتقدو الدولار يريدون حقاً بديلاً طويل الأمد، فقد يضطرون رغما عنهم إلى تبني سياسات مختلفة جذرياً مستقبلاً.
ولعل الأرجح في هذه المسألة، وفقا لما أوضحه المراقبون الغربيون هو تسارع وتيرة التحول التدريجي في الأسواق الاقتصادية العالمية؛ حيث أوضح كوهين، أن التغيير سيأتي من خلال عملية التطور، وليس حالة من الثورة والتمرد ضد الدولار، وتوقع أن المزيد من البلدان سوف تختبر قدراتها وتنشر تدابير للحد من قوة الدولار، وإن كان ذلك من دون أن يكون هناك تحديات كبيرة للوضع المالي الراهن.
وفي حالة الرنمينبي، أشارت تشاندان، إلى أن وجوده مقارنة بالدولار الأمريكي لا يزال صغيرًا، لكنه ينمو كل عام، وبالتالي ستكون هناك عملية طويلة تتطلب تدابير إصلاحية حتى يتمكن من منافسة الدولار كعملة عالمية مُفضلة للمعاملات الدولية. ووافق وايز، على أن التراجع الجزئي عن التعامل بالدولار، قد تكون نتيجة أكثر قبولا مستقبلا، مضيفا أن المنافسة الاستراتيجية المتصاعدة بين القوى العظمى والمتوسطة من المرجح أن تسهل هذه التحولات بشكل أكبر، مؤكدا أنه في ذروة تلك المنافسة، فإن الاتفاقات الإقليمية، يمكن أن تؤثر على التجارة والتمويل، وبالتالي خلق مجالات نفوذ اقتصادية ومالية متميزة، يمكن للعملات الرقمية أن تتولى أدوارا مركزية بها.
على العموم، في حين أصر كوهين، على أن الدولار الأمريكي سيستمر في دعم الاقتصاد العالمي في المستقبل المنظور، ويدعم الخبراء من جيه بي مورجان، والمجلس الأطلسي، وكلية لندن للاقتصاد مثل هذا التقييم؛ فإن هناك اعترافا بأن التغيرات الجيوسياسية الراهنة باتت نتيجة مباشرة في الوضع الاقتصادي الراهن، والذي تم تأسيسه وفق مؤتمر بريتون وودز؛ وبالتالي فإن تصريحات أمثال روشير شارما، من روكفلر الدولية، والذي حذر فيها بعد الحرب الأوكرانية في عام 2022 من أن عالم ما بعد الدولار يقترب بسرعة، لا يمكن استبعاد وقوعها على الإطلاق.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك