هناك ثلاثة أنواع من الإبادة الشاملة والجماعية التي يمكن القيام بها ضد المجتمعات البشرية، وكل هذه الأنواع قام بها الكيان الصهيوني خلال أشهر الحرب الهمجية والبربرية على غزة، وبالتحديد منذ السابع من أكتوبر 2023. وهذا الإجرام الشامل والجماعي في حد ذاته سابقة تاريخية تُمثل صفحة سوداء مظلمة في تاريخ الإنسانية، فلم يشهد التاريخ قط في عمره الطويل، قيام أي جهة في أية بقعة من عالمنا الواسع الكبير بكل أنواع الإبادة لأي مجتمع من المجتمعات حول العالم في وقت واحد، وفي زمن محدود وقصير جداً من عمر الحروب.
فمن أكثر أنواع الإبادة الجماعية شيوعاً وتوثيقاً ووضوحاً هو الإبادة الجماعية للبشر (Genocide)، حيث تم تعريفها بأنها: «التدمير المتعمد والمنهجي لمجموعة من الناس بسبب عرقهم، أو جنسيتهم، أو دينهم، أو أصلهم»، وهذه الإبادة الجماعية للبشر صُنِّفت بإجماع كل دول العالم، كجريمة حرب على المستوى الدولي، كما أن هناك اتفاقيات دولية قد وثقت وعرَّفت بالتفصيل هذا النوع، وأولها اتفاقية جنيف لعام 1948.
فالأمم المتحدة اعترفْت رسمياً بعدة مجازر بشرية وقعت في العقود القليلة الماضية وصنفتها كجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، منها الكارثة الإنسانية الشاملة في رواندا، ومجزرة صبرا وشاتيلا على يد الصهاينة، والإبادة الجماعية للمسلمين البوسنيين على يد الصرب في سربرنيشا.
واليوم نشهد إبادة جماعية للإنسان في غزة بالصوت والصورة وبالنقل المباشر حياً أمامنا دقيقة بدقيقة، وساعة بساعة، فلا يحتاج إثابتها إلى دليل علمي، أو تقارير من الأمم المتحدة، ولا يستطيع أحد أن ينكر وجودها، ويتجاهل وقوعها. وبالرغم من ذلك فإن محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة قد اعترفت رسمياً بهذه الإبادة الجماعية، كما اعترفت بها أيضاً منظمة أممية أخرى هي المفوضية السامية لحقوق الإنسان في تقريرها الأخير الصادر في 18 يونيو 2024.
والنوع الثاني من الإبادة الجماعية التي تعترف بها منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة هي الإبادة الشاملة للحجر والمرافق العامة والخاصة، حيث تُصنَّف كذلك كجريمة حرب دولية.
وهنا أستطيع أن أُقسم هذا النوع إلى صنفين رئيسين، الأول الإبادة الشاملة للسكن والعمارات والمباني التي يقيم فيها ويسكن فيها الإنسان، حيث لا يمكن للإنسان العيش حياة كريمة ومنتجة ومستدامة بدون هذه المساكن التي تأويه. والثاني فهو الإبادة الشاملة للتراث البشري، وتدمير المرافق العامة والخاصة التي لها بُعد ثقافي وإنساني، ليس على مستوى الدولة نفسها فحسب، وإنما على مستوى البشرية جمعاء.
أما الصنف الأول فيُطلق عليه رسمياً مصطلح «دُوْمِيسَيدْ» (domicide)، وأصله عبارة لاتينية مكونة من كلمتين، الأولى (domus) بمعنى بيت ومنزل، والثانية (cide) أو (caedo) بمعنى القتل المتعمد، والتعريف الدولي هو: «التدمير المتعمد الشامل لأماكن السكن مما يجعل المنطقة غير صالحة وغير ملائمة للحياة»، كذلك هناك تعريف آخر هو: «التدمير المتعمد والمنهجي للمنازل والبنية التحتية الأساسية بحيث يصبح المكان غير قابل للسكن والحياة».
أما على مستوى الأمم المتحدة، ففي 28 أكتوبر 2022 نشرتْ «مفوضية الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان» تقريراً من إعداد «بالاكريشنان راجاغوبال» (Balakrishnan Rajagopal) المقرر الخاص بالحَقْ في السكن اللائق. وجاء التقرير تحت عنوان: «يجب الاعتراف بالـ(دُوْمِيسَايد) كجريمة دولية»، وأكد في التقرير الذي عُرض على الجمعية العمومية للأمم المتحدة أهمية الاعتراف بهذا النوع من الإبادة الشاملة كجريمة حرب دولية انطلاقاً من القانون الدولي.
وفي 29 يناير 2024، نَشر هذا المقرر الأممي الخاص بالسكن اللائق مقالاً في صحيفة «النيويورك تايمز»، تحت عنوان: «لماذا يجب تصنيف «الدوموسيد» كجريمة ضد الإنسانية»، حيث أكد أن ما حدث في غزة من تدمير شامل للسكن والبنية التحتية الخدمية للمدنيين يرقى إلى جريمة حرب، لما فيها من التعدي الواضح على حقوق الإنسان الأساسية والتي منها حقه في السكان المناسب والملائم الذي يجعله يعيش حياة كريمة ولائقة. وعلاوة على ذلك، فقد تم تدمير البنية التحتية الخدمية بشكل كامل كمحطات توليد الكهرباء، والماء، ومعالجة مياه المجاري وغيرها.
أما الصنف الثاني فهو الإبادة الشاملة للتراث الإنساني التاريخي، وهناك معاهدة أممية تُشرف عليها منظمة «اليونسكو» حول التراث الإنساني الطبيعي من جهة والتراث الإنساني الثقافي والتاريخي من جهة أخرى. فبالرغم من التدمير الشامل لهذا النوع من الإرث الإنساني الفريد من نوعه، إلا أن الأمم المتحدة لم تُصنفه بعد ضمن تصنيفات الإبادة الجماعية، أو الجرائم ضد الإنسانية. فما حدث في غزة خسارة ثقافية وتراثية إنسانية ليس للمجتمع الإسلامي العربي فحسب، وإنما للمجتمع المسيحي واليهودي الدولي على حدٍ سواء.
فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك «المسجد العمري العظيم» الذي تم تدميره، ولهذا الجامع الأثري أهمية كبيرة من الناحية التاريخية، والثقافية، والفنية المعمارية، حيث يُقدر عمره بأكثر من 1500 عام، وشهد تغييرات كثيرة في هويته. كذلك هناك الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي تقع في حي الزيتون القديم وتُعتبر ثالث أقدم كنيسة في العالم على الإطلاق، حيث تَعُود أصولها إلى القرن الخامس أو عام 407، وتُعرف بكنيسة القديس «برفيريوس» (Saint Porphyrius).
وأما النوع الثالث والأخير للإبادة الجماعية التي ارتكبتها أيدي الغدر والهمجية في غزة، فهو التدمير الشامل للبيئة الطبيعية الحية الأصلية، أو الإبادة الشاملة للتنوع الإحيائي الفطري من الأشجار القديمة المعمرة، والمزارع والحقول المثمرة، والمتنزهات والحدائق العامة، والبيوت الزجاجية. وهذا النوع من الإبادة يُطلق عليه (topocide) أو (ecocide). ويُعرَّف هذا المصطلح بأنه «التغيير المتعمد، أو التدمير المنهجي الشامل للبنية الطبيعية، والبيئة الطبيعية الأصلية الفطرية التي خلقها الله من خلال التمدد والتوسع الصناعي، بحيث لا يمكن ارجاعها مرة ثانية إلى طبيعتها»، أو في حالة غزة من خلال العمليات العسكرية الممنهجة والمتعمدة.
ففي حالة غزة هناك تدمير متعمد للبنية التحتية الزراعية التي توفر الغذاء للشعب في غزة، وتدميرها يعني القضاء على مصدر فطري طبيعي للغذاء لسكان غزة، مما يهددهم بسوء التغذية والمجاعة، كما هو حاصل الآن (راجع تحقيق صحيفة الواشنطن بوست في 4 مايو 2024 تحت عنوان: «الهجمات الإسرائيلية دمرت قدرة غزة على زراعة غذائها»). وهذه البيئة الطبيعية الزراعية التي كانت تزود الناس بالغذاء تم تدميرها وجرفها وإزالتها إما عن طريق المتفجرات الحارقة والصواريخ المدمرة، أو عن طريق الجرافات والآليات الثقيلة التي دهستها فدمرت التربة الزراعية.
فهل بعد هذا العرض المقتضب هناك من يشك في أن هذا التدمير الشامل والجماعي في مكان واحد ووقت واحد للبشر، والشجر، والحجر، والتراث الثقافي الإنساني، والسكن لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية جمعاء؟
وهل يشك أحد بأن هذا الكيان الصهيوني البربري قام بما لم يقم به أحد في تاريخ الإنسانية من ارتكاب كل أنواع الإبادة الجماعية وجرائم الحرب ضد الإنسانية في وقت واحد، ومكان واحد، وفي فترة زمنية قصيرة جداً؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك