كثيراً ما يتعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للانتقاد لفشله في تقديم رؤية «لليوم التالي»، أي اليوم الذي يلي نهاية الحرب الدائرة رحاها الآن في غزة.
تنبع بعض هذه الانتقادات من حلفاء إسرائيل الغربيين التقليديين، الذين يشعرون بالقلق من أجندات نتنياهو الشخصية والسياسية، والذين يركزون اهتمامهم في تأخير محاكماته بالفساد وضمان بقاء حلفائه المتطرفين ملتزمين بالائتلاف الحكومي الحالي.
لكن الانتقاد هو الأعلى والأقوى في داخل إسرائيل نفسها.
وقال وزير الدفاع يوآف غالانت في شهر مايو الماضي: «طالما احتفظت حماس بالسيطرة على الحياة المدنية في غزة، فإنها قد تعيد بناء وتعزيز (نفسها)، مما يتطلب من جيش الدفاع الإسرائيلي العودة والقتال في المناطق التي عملت فيها بالفعل»، مطالبا في الوقت ذاته بوضع خطة لليوم التالي.
وقد أعرب قائد الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي عن نفس المشاعر. فقد نقلت القناة 13 الإسرائيلية عنه قوله: «طالما لا توجد عملية دبلوماسية لتطوير هيئة حكم في القطاع غير حماس، سيتعين علينا إطلاق حملات عسكرية مرارا وتكرارا».
صحيح أن نتنياهو ليس لديه خطة لما بعد الحرب. ومع ذلك، فإن الافتقار إلى مثل هذه «الرؤية» لا يعتمد بالكامل على فشله في إنتاج واحدة، ولكن بسبب عدم قدرته على التحديد، بأي درجة من اليقين، ما إذا كانت الحرب ستؤدي إلى نتائج إيجابية لإسرائيل.
لقد أظهرت تسعة أشهر من الحرب أن إسرائيل غير قادرة ببساطة على الحفاظ على وجودها العسكري في المناطق الحضرية، حتى تلك التي تعرضت للتطهير العرقي أو ذات الكثافة السكانية المنخفضة.
وقد ثبت أن هذا الأمر صحيح في الجنوب كما هو الحال في الأجزاء الشمالية من قطاع غزة، بما في ذلك البلدات الحدودية التي كان من السهل نسبياً دخولها في الأيام أو الأسابيع الأولى من الحرب.
ولكي يتم وضع خطة ما بعد الحرب بالشكل الذي يتناسب مع المصالح الإسرائيلية، فلابد من إخضاع غزة عسكرياً، وهو الهدف الذي يبدو أبعد من أي وقت مضى.
في بداية الحرب، وخلال مرات عديدة منذ ذلك الحين، قال نتنياهو إن إسرائيل ستتحمل «المسؤولية الأمنية الشاملة» عن قطاع غزة «لفترة غير محددة».
وهذا أيضاً غير مرجح، حيث حاولت إسرائيل فرض مثل هذه السيطرة الأمنية بين عامي 1967 و2005، عندما اضطرت، بسبب المقاومة الشعبية خلال الانتفاضة الثانية، إلى إعادة انتشار قواتها خارج قطاع غزة، وفرض حصار محكم منذ ذلك الحين في قطاع غزة.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أنه حتى الحصار الإسرائيلي في حد ذاته غير قابل للاستمرار، حيث فشل أولئك الذين تم تكليفهم بإبقاء سكان غزة محبوسين، فشلاً ذريعاً في مهمتهم الرئيسية.
وهذا التقييم هو تقييم الجيش الإسرائيلي نفسه. وقال قائد الفرقة 143، العميد آفي روزنفيلد، أثناء تقديم استقالته في 9 يونيو: «في يوم 7 أكتوبر، فشلت (في) مهمة حياتي: حماية غلاف (غزة)».
وهذا يعني أن العودة إلى وضع ما بعد حرب 1967 ليس خياراً عقلانياً، وكذلك إعادة تفعيل ما يسمى «خطة فك الارتباط» بعد عام 2005.
وبينما تنشغل واشنطن بالتعبير عن الأمل في ابتكار بديل يضمن أمن إسرائيل على المدى الطويل ــ بغض النظر عن حقوق الفلسطينيين أو حريتهم أو أمنهم بطبيعة الحال ــ يرفض نتنياهو مجاراة إسرائيل لذلك.
تتمثل مشكلة هذه الأفكار الأمريكية، فيما يتعلق بالحكومة الإسرائيلية، في أن لغة مثل «العودة إلى المفاوضات» وما شابه ذلك تعتبر من المحرمات تمامًا في السياسة السائدة منذ عقود في إسرائيل.
وبالإضافة إلى ذلك، يرفض نتنياهو أي تدخل للسلطة الفلسطينية في غزة. ويبدو أن هذا الموقف، الذي دعا إليه مسؤولون إسرائيليون آخرون، يحير الكثيرين، حيث إن السلطة الفلسطينية مدمجة بالفعل في الترتيبات الأمنية الإسرائيلية في الضفة الغربية.
ومخاوف نتنياهو الحقيقية هي أن تكون عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة مقرونة بثمن سياسي، لأنها ستعطي مصداقية أكبر لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي يستثمر بشدة في «عملية السلام» التي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية.
ولا ترفض القيادة الإسرائيلية الحالية العودة إلى الخطاب السياسي القديم فحسب، بل إنها تجاوزت ذلك بشكل أساسي، حيث نقلت تلك اللغة إلى لغة الضم العسكري للضفة الغربية، بل حتى إعادة استعمار غزة.
ولإعادة استعمار غزة - وفقًا لتوقعات وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن جفير - لا بد من وقوع حدثين متتاليين: الأول، تهدئة المقاومة في غزة، ثم التطهير العرقي الجزئي أو الكلي للفلسطينيين ودفع السكان هناك إلى مصر.
وبينما يفشل الجيش الإسرائيلي في مهمته الأولى، فإن المهمة الثانية تبدو أيضاً غير ممكنة، وخاصة أن العملية الإسرائيلية الأخيرة في رفح دفعت مئات الآلاف من النازحين في غزة إلى التراجع من الحدود بين غزة ومصر إلى وسط القطاع.
لا يبدو أن نتنياهو يملك خطة فعلية لغزة، لا الآن ولا بعد الحرب. فهو بذلك يطيل أمد الحرب رغم أن جيشه منهك ومضطر للقتال في جبهات متعددة.
ومع ذلك، فإن إلقاء اللوم على نتنياهو لفشله في إنتاج رؤية «لليوم التالي» لغزة، هو أيضًا من باب التمني لأنه يفترض أن إسرائيل تمتلك كل الأوراق، غير أنه ليس لديها أي شيء.
وبطبيعة الحال، هناك بديل لسيناريو الحرب التي لا تنتهي، وهو رفع الحصار بشكل دائم عن غزة، وإنهاء الاحتلال العسكري، وتفكيك نظام الفصل العنصري. وهذا من شأنه أن يمنح الفلسطينيين حريتهم وحقوقهم التي تكفلها في الواقع القوانين الدولية والإنسانية.
وإذا استجمع المجتمع الدولي الشجاعة الكافية لفرض مثل هذا الواقع في «اليوم التالي» على تل أبيب، فلن تكون هناك حاجة إلى الحرب أو المقاومة في المقام الأول.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك