يوميات سياسية
السيـــــــد زهـــــــره
زيارة جلالة الملك لروسيا.. الأبعاد الاستراتيجية
الملك قدم للعالم صورة البحرين المتحضرة العربية الجميلة
لماذا قاطع بوتين رئيس بيلاروسيا حين تحدث عن زيارة الملك؟
الملك تحدث باسم الأمة العربية وحدد ثوابت المواقف العربية
هذا مشهد يجب أن نتأمله جيدا إذ إن له دلالات بالغة الأهمية.
في اليوم التالي لزيارة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة لروسيا، كان الرئيس الروسي بوتين في زيارة لبيلاروسيا وفي لقاء مع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو.
أثناء اللقاء قال لوكاشينكو في معرض ترحيبه ببوتين: «أعلم أن يومكم كان شاقا.. كانت لديكم محادثات شاقة وصعبة مع ملك البحرين».
الرئيس بوتين قاطعه على الفور وقال له: «لا، لا أبدا.. كانت محادثات ممتعة ولطيفة... عقدنا مباحثات مطولة مع أصدقائنا العرب يوم أمس»، في إشارة بالطبع إلى محادثاته مع جلالة الملك والوفد المرافق.
رد الفعل الفوري للرئيس بوتين وتعليقه على هذا النحو يعني أمورا كثيرة. يعي أنه شخصيا سعيد بزيارة جلالة الملك وبالمحادثات التي جرت. ويعني أن زيارة جلالة الملك لم تكن مجرد زيارة رسمية بروتوكولية وإنما اتسمت بالخصوصية الشديدة.. خصوصية العلاقات بين أصدقاء.. بين جلالة المك شخصيا والرئيس بوتين.. وبين البحرين وروسيا كبلدين صديقين.
هذه الخصوصية تجسدت في الاستقبال الحار الحافل لجلالة الملك ووفد البحرين طوال الزيارة. وتجسدت في التعبيرات الصادقة التي تحدث بها بوتين عن جلالة الملك والبحرين والعلاقات بين البلدين. وتجسدت في النتائج النهائية للزيارة.
عموما، الزيارة لم تكن عادية. لها أبعاد استراتيجية كبرى يجب أن نتوقف عندها.
***
جوانب استراتيجية
لا نبالغ إذا قلنا إن زيارة جلالة الملك لروسيا وما جرى أثناءها وما انتهت إليه من نتائج تعتبر نقطة تحول كبرى ليس فقط في مسار العلاقات البحرينية الروسية، ولكن في مسار العلاقات العربية الروسية بشكل عام.
الزيارة انطوت على جوانب استراتيجية كبرى يجب أن نتوقف أمامها مطولا، في مقدمتها جوانب أربعة رئيسية.
الجانب الأول: التوجه الاستراتيجي
منذ سنوات طويلة، والخبراء والمحللون العرب يطالبون بضرورة أن تقوم الدول العربية عموما بتنويع علاقاتها الاستراتيجية مع القوى العالمية الكبرى، وبالأخص قوى مثل روسيا والصين. أسباب هذه الدعوة معروفة وتحتمها المصالح العربية بعيدة المدى على كل المستويات.
ومنذ فترة طويلة تقيم البحرين بالفعل علاقات قوية ومتينة مع روسيا والصين.
لكن زيارة جلالة الملك لروسيا تعتبر نقطة تحول في هذا الخصوص. تعتبر نقلا للعلاقات إلى مرحلة جديدة من العلاقات الاستراتيجية.
جلالة الملك كان حريصا تماما على أن يشير في كل أحاديث جلالته أثناء الزيارة إلى الأهمية الاستراتيجية الكبرى التي تعطيها البحرين والدول العربية عموما للعلاقات مع روسيا ولدور روسيا الاستراتيجي في العالم.
أثناء الزيارة تحدث جلالة الملك عن «الشراكة التاريخية الوطيدة مع روسيا». حديث جلالته عن الشراكة التاريخية يعني المكانة الاستراتيجية المتقدمة في رأي جلالته للعلاقات مع روسيا، والرهان على دعمها للقضايا العربية والتعاطف معها، والتقدير العربي الكبير لهذا الدعم.
إذن، زيارة جلالة الملك اندرجت في إطار توجه واضح من جلالته بضرورة تنويع العلاقات الاستراتيجية مع القوى الكبرى في العالم في مقدمتها روسيا، وقناعة من جلالته بأن هذا التنويع تحتمه المصالح العربية.
لسنا بحاجة إلى القول إن هذا التوجه الاستراتيجي أصبح مصلحة عربية حاسمة في الوقت الحاضر بالذات ومستقبلا. أصبح توجها حاسما بعد التطورات في الأشهر الماضية التي ارتبطت بحرب الإبادة الصهيونية على غزة، وما كشفت عنه مواقف للدول الغربية معادية لكل الأمة العربية وتضمر أسوأ نوايا الشر تجاهنا.
وغير هذا، هناك نظام عالمي جديد يتشكل. العالم كله، خارج الدول الغربية، أدرك أن نظاما عالميا جديدا لا بد أن يحل محل النظام الحالي الذي يهيمن عليه الغرب.
وتوجه جلالة الملك الاستراتيجي على النحو الذي تحدثنا عنه يعني أن جلالته، كقائد لمسيرة العمل العربي المشترك حاليا، يريد أن يكون للعرب دور فاعل في صياغة النظام العالمي الجديد حماية لمصالح الأمة العربية.
***
الجانب الثاني: قوة البحرين الناعمة
هذا من أهم الجوانب الاستراتيجية لزيارة جلالة الملك لروسيا.
الزيارة تعتبر إسهاما كبيرا جدا في ترسيخ وإظهار قوة البحرين الناعمة.
جلالة الملك أثناء الزيارة والشخصيات الروسية التي استقبلها وما أدلى به جلالته من تصريحات كان حريصا على أن يقدم للعالم من خلال الزيارة صورة البحرين المتحضرة العربية الجميلة.
كان جلالة الملك حريصا على أن يستقبل قادة المسلمين والمسيحيين في روسيا. استقبل جلالته رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية رئيس مجلس شورى المفتين، والمفتي العام لروسيا رئيس الإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا، وأيضا المطران نيفون صيقلي ممثل بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس لدى بطريركية موسكو.
في هذه اللقاءات كان جلالة الملك حريصا على أن يتحدث بفخر واعتزاز عن تاريخ البحرين العريق وقيمها الانسانية النبيلة التي يتمسك بها شعب البحرين، وعن دور البحرين الحضاري.
جلالة الملك المعظم قال: «إن مملكة البحرين تعتز بتاريخها العريق في التآخي والتسامح والتعايش وهي تحتضن على أرضها مختلف الديانات والثقافات التي تعيش على أرضها كأسرة واحدة متحابة مترابطة بفضل وعي شعبها وإيمانه وتمسكه بالمبادئ الإنسانية النبيلة القائمة على احترام الجميع».
وأكد جلالته أن المملكة ماضية في جهودها ومبادراتها الإنسانية النبيلة لترسيخ ثقافة التقارب والعيش المشترك بين مختلف الأديان لخير البشرية وتقدمها.
هذه بعض ملامح الصورة الجميلة للبحرين التي قدمها جلالة الملك للشعب الروسي والعالم.
وحين زار جلالة الملك مقر الجمعية الفيدرالية للاتحاد الروسي، كان جلالته حريصا على أن يبرز إنجازات البحرين في مجال الديمقراطية والعمل البرلماني. جلالته أشاد أثناء اللقاء «بتطور المسيرة البرلمانية في مملكة البحرين وبالإنجازات والمكتسبات المهمة التي حققتها السلطة التشريعية في مختلف أوجه الحياة لكل ما فيه رفعة المملكة وتقدم شعبها الكريم».
وكان لافتا أن رئيسة الجمعية الفيدرالية للاتحاد الروسي حرصت على أن تتطرق إلى جانب جميل من صورة البحرين يتعلق بالمرأة البحرينية حين أشادت بدور المجلس الأعلى للمرأة في البحرين وما حققه من إنجازات وبرامج تهدف إلى رفعة وتقدم المرأة البحرينية.
هذه الجوانب التي تطرق اليها جلالة الملك أثناء الزيارة وحرص على إبرازها تمثل اركانا أساسية لقوة البحرين الناعمة التي يجب أن يعرفها العالم.
لهذا يجب استثمار الزيارة ونتائجها على هذا النحو في ترسيخ اركان قوة البحرين الناعمة وإظهارها للعالم.
***
الجانب الثالث: باسم الأمة العربية
نلاحظ أن القضايا العربية احتلت الجانب الأكبر من محادثات جلالة الملك مع الرئيس بوتين، وأكبر حتى من الحديث عن العلاقات الثنائية. وفي أحاديث وتصريحات جلالته، كانت القضايا العربية هي الأساس.
جلالة الملك تحدث باسم الأمة العربية باعتبار جلالته رئيسا للدورة الحالية للقمة العربية حتى العام القادم.
جلالته بدايةً حرص على اطلاع الرئيس الروسي على نتائج القمة العربية التي احتضنتها البحرين. بالطبع جلالته فعل هذا كي يضمن الدعم الروسي لما قررته القمة وخصوصا كما قال جلالته صراحة دعم روسيا لمبادرة البحرين بعقد مؤتمر دولي للسلام تستضيفه البحرين.
وجلالة الملك حين تحدث باسم الأمة العربية وكرئيس للقمة العربية كان حريصا على أن يبرز أمام العالم عددا من الحقائق الكبرى في مقدمتها ما يأتي:
1– أن القمة العربية في البحرين شهدت لأول مرة اجماعا على المواقف العربية.
بهذه الحقيقة أراد جلالة الملك ان يوجه رسالة عبر الزيارة للعالم مؤداها أن كل القوى الكبرى والعالم كله يتعامل اليوم مع مواقف عربية موحدة إزاء القضايا الكبرى، وأن جلالته حين يتحدث بصفته رئيسا للقمة يعبر عن هذه المواقف الجماعية لا عن موقف البحرين فقط.
2– أن الأمة العربية تريد السلام والعدل والانصاف ولا تضمر شرا لأحد، وإنما تريد حسن الجوار على أسس من الاحترام المتبادل.
3 – أن الدول العربية عازمة في الوقت نفسه على الدفاع عن مصالحها وحقوقها المشروعة سواء تعلق الأمر بقضية فلسطين أو القضايا الأخرى، وأنها في سبيل ذلك عازمة على اتباع الأساليب المتحضرة التي يقرها العالم.
***
الجانب الرابع: الثوابت الكبرى
حين تحدث جلالة الملك أثناء زيارة روسيا باسم الأمة العربية وكرئيس للقمة العربية، كان جلالته حريصا على أن يركز بوضوح على عدد من الثوابت الكبرى في العمل العربي المشترك الآن وفي الفترة القادمة، والتي على أساسها سوف يقود جلالته العمل العربي.
أول هذه الثوابت أن البحرين قائدة للعمل العربي المشترك في الفترة الحالية وكمسؤولة عن العمل على تطبيق ما قررته القمة العربية بالإجماع تعتزم أن تقوم بدورها على أكمل وجه ولن تتردد في بذل كل جهد وتسخير كل علاقاتها الدولية من أجل ذلك.
وثاني هذه الثوابت أن الأولوية العربية المطلقة اليوم هي لوقف العدوان على غزة في أقرب وقت، وهي للحفاظ على أرواح الأبرياء الذين نزح مئات الآلاف منهم من بيوتهم ومن مناطقهم.
وثالث هذه الثوابت أن قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى، وأنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار ولا سلام في المنطقة من دون أن يحصل شعب فلسطين على حقوقه كاملة في مقدمتها حقه في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
وفي سبيل العمل على تحقيق هذا الهدف العربي الكبير جاء اقتراح البحرين بعقد مؤتمر دولي للسلام طلب جلالته من روسيا أن تدعمه وطلب من القوى الكبرى الأخرى أن تفعل هذا.
حديث جلالة الملك عن القمة والثوابت والأهداف العربية على هذا النحو أثناء الزيارة هو رسالة للعالم كله بما يعتزم جلالته العمل من أجله أثناء ترؤس القمة العربية حتى العام القادم.
***
الجوانب الأربعة التي تحدثت عنها هي في تقديرنا أهم الجوانب الاستراتيجية التي انطوت عليها زيارة جلالة الملك لروسيا وما طرحه جلالته أثناءها.
بقي أن نشير إلى الأهمية الكبرى لاستثمار الزيارة والبناء عليها خلال الفترة القادمة سواء بحرينيا أو عربيا.
بحرينيا يجب استثمار الزيارة في تطوير العلاقات مع روسيا على كل المستويات وخصوصا على المستويين الشعبي والثقافي. فهذا هو أساس راسخ لتطوير العلاقات.
من الأمور الإيجابية أن التعاون الثقافي احتل مكانة متقدمة في مذكرات التفاهم التي تم توقيعها. وبشكل عام من المهم أخذ آراء وتصورات قوى المجتمع المدني في كيفية تطوير العلاقات على المستويات المدنية الشعبية.
وعربيا، نتوقع أن يكون هناك دعم جماعي عربي لتحركات جلالة الملك على الصعيد الدولي كرئيس للقمة العربية كما تكشفت أبعادها في الزيارة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك