مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
أنـا لا أكبــــر.. لأننـي ولــدت لأُقـتـل!
عندما أكتبُ أقفُ كثيرًا عند الحقائق، فهل عينُ الحقيقةِ عندي هي نفسُها عند من يقرأني، لكني أكتبُ وأظلُّ أكتبُ وفي إيماني أن التغييرَ سيحدثُ يومًا ما بقلمٍ يرسمُ حروفًا للمستقبل.
اليوم نرى «حنظلة ناجي العلي»* يعودُ إلى الحياة، بعد أن ظنَّ البعضُ أنه استُشهدَ جراءَ قصفٍ إسرائيليٍّ وحشيٍّ في غزة، لكنه خرجَ من بين ركامِ البناياتِ والمستشفيات رافعًا إصبعيه بعلامةِ النصر، مؤكدًا أن دماءَه ستظلُّ الشريانَ الذي يمدُّ فلسطينَ بالحياة.
في هذه الأيامِ العصيبة، أقولُ للإسرائيليين: «إن عليكم أن تعلموا أنكم لستم أبناءَ هذه الأرض، وما تسوقونه من حججٍ تاريخيَّة لا تنطبقُ إلا على يهود فلسطين فقط، وليس اليهود القادمين من دولٍ أخرى».
إسرائيلُ تقتل أبناءَ فلسطين العرب، وأتساءلُ: ألسنا نحن من تريدون منا المحافظةَ على الاتفاقِ الإبراهيميِّ، ألسنا عربًا، كيف نتقبَّلُ ذلك، وأنتم تقتلون أبناءَ جلدتِنا في أنحاء فلسطين المحتلة؟!
وأود أن أسألَ سؤالا لهؤلاء القابعين على مقاعد المسؤولية في إسرائيل حاليا:
أنتم تروجون لرغبتِكم بالسلام مع الدول العربيَّة البعيدة جغرافيًا عن فلسطين كما تدَّعون، وتريدون بناءَ علاقاتٍ طبيعية بعيدًا عن أرض فلسطين، ونحن نرى أنكم أعداءُ جيرانكم وهم عرب، ونحن البعيدين عنكم عربٌ أيضا.
كيف سنتقبلُ هذا الاستعلاءَ والعنصريَّةَ التي ترددونها عن العرب، وكيف سنثقُ بكم إذًا؟ّ
كيف نستطيعُ أن نتحاورَ، وفي آذاننا ترديدُ كلمات الطفل الفلسطينيِّ، الذي سُئل ماذا سيصبحُ حينما يكبر، فرد قائلا قولًا يزلزلُ الجبالَ: إني فلسطينيٌّ وُلدت لأقتل قبل أن أكبرَ، لأن إسرائيلَ ستقتلني!!
كيف نقنعُ هذا الطفلَ البريء بأن هناك مستقبلا آمنا له؟!
أنتم الذين تديرون إسرائيلَ منذ أكثر من 75 عاما تلقنون أبناءَكم الكراهيةَ والعنصريَّةَ تجاه الفلسطينيين، وكلما تمتلئ القلوبُ بالكراهيةِ تعمى الأبصارُ.
هل أنتم فخورون بتدميرِ غزة، أليس هذا إرهابًا؟، يقف وراءه مجرمُ حربٍ يبحثُ عن الدفاعِ عن رقبتِه ومنصبِه فيطيلُ أمدَ الحرب على حسابِ دماء الأبرياء من النساء والأطفال من أجل كرسيِّه!
لأنه يدركُ أن مستقبلَه السياسيّ انتهى مع حلول ليل السابع من أكتوبر الماضي، كما يدرك نتنياهو جيدًا أن قتلَ المزيد من الفلسطينيين ليس نصرًا له، بل هو انتقامٌ شخصيٌّ، لأنه يعلمُ أن الصمودَ الفلسطيني يسقِطُ حكمَه، وأن كلَّ نقطةِ دمٍ فلسطينيَّة طاهرة تصدرُ حكمًا بفشلِه العسكريِّ والسياسيِّ معًا.
السلامُ يتحققُ بنزعِ فتيل الكراهية، والكراهيةٌ تزولُ بتحقيقِ العدل، والمساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومنحِ الشعب الفلسطيني الشقيق حقوقَه المشروعةَ في الأرض التي سلبتموها منه.
آن الأوانُ أن تتغيَّرَ الوجوهُ في هذا الصراع، وألا ندورَ في فلك عقلياتٍ متجمدة، تمصُّ دماءَ الأبرياء من أجلِ مناصبها.
هذه الكلماتُ أقولُها، وأنا أرى هذا السعارَ الذي انتابَ هذا الـ«نتنياهو» يدَّعي أن هناك من يريدُ أن يعرقلَ السلامَ بين إسرائيل والدولِ العربيَّة، هذه قد تكونُ حقيقةً في ظاهرِها، ولكن الحقيقةَ الساطعةَ أن من يرددُ ذلك ليس «رجلَ سلام»، بل إن يديه ملطختان بدماءِ الأبرياء، طوالَ تاريخه، بل تلاعبَ هو وحزبه عشرات المرات بديمقراطيتِهم الزائفة من أجل تعطيلِ مسيرة السلام.
ولتعلم إسرائيلُ وقادتها أن محاولتِهم البائسة لتحويل القضية إلى صراعٍ دينيِّ، سيؤدي في النهاية إلى خسارتِهم خسارةً فادحة، لأن العربَ لم يكونوا في عداءٍ مع اليهوديَّة بل مع الصهيونيَّة التي ابتلعت أرضًا لم تكن لها من البداية.
التوقيت الحالي لا يحتملُ أيَّ مواربةٍ في الكلمات، لأن ما نراه حاليا هو تكرارٌ لنكبة 1948، ولكن هذه المرة متدثِّرة في لباسٍ مزيف، ولكن جاءت الهجماتُ الوحشيَّة على غزة لتسقِطَ ورقةَ التوت الأخيرة لهذا الكيانِ الغاصب.
إنني أنظرُ إلى الأسابيع التي مرت على غزة، ورغم المشاهدِ التي تدمي القلوبَ، لكنني أرى فيها عديدا من إِشاراتٍ تستحقُ التوقفَ عندها، فنتنياهو الذي يحاولُ أن يرتدي ثوبَ الرجل القوي هو في الحقيقةِ يقفُ مرتعشًا، وما تكراره لعبارة الانتصار إلا انعكاسًا لما في مضمونها من هزيمة، وهو ما تحقق بالفعل فكل ما سعت إليه تل أبيب ومن ورائها واشنطن وغيرها من العواصم الأوروبيَّة من ترويجٍ للنموذج الإسرائيلي القوي المتقدم تكنولوجيًّا وعسكريًّا مقارنة بالدول المجاورة، سقط سقوطًا مدويًّا على يد مسلحي المقاومة بتسليحهم البدائي.
الهزيمةُ الأكثرُ تجليًّا، بحكم مُتابعتي للإعلام والرأي العام العالمي، تتمثلُ في التعاطفِ الدولي غيرِ المسبوق مع القضية الفلسطينيَّة، فالجميعُ رأى مئات الألوف من المتظاهرين في شوارع لندن وبروكسل وباريس وغيرها من المدن الأوروبيَّة بل وفي قلب نيويورك نفسها ومن اليهود أنفسهم، والكل يرددُ هتافًا واحدا «فلسطين حرة»، وهي عبارةٌ لا تخلو من التعاطف بل تنتقل إلى رغبةٍ شعبيَّةٍ عالميَّة في حل هذه القضية، وهذا متغيرٌ لم تشهده القضيةُ الفلسطينيَّة طيلةَ سنوات الاحتلال للأراضي الفلسطينية والتي امتدت إلى 75 عامًا.
الصمودُ الفلسطينيُّ يتلمسُ كلُّ عاقل نتائجَه، فمن كان يظنُّ بأن يأتيَ يومٌ نرى فيه يهودَ أمريكا والذين كنا نقول إنهم الداعمون لإسرائيل بحكم قدراتهم المالية، يخرج من بين أبناء أغنيائهم من يعبرون عن تعاطفهم مع الفلسطينيين ويدينون إسرائيل على جرائمها بحقهم.
موقفُ الشعوب الغربية يناقضُ تمامًا موقفَ حكامهم، وأمام هذا الموقفُ الصلب رأينا بلدانًا أوروبيَّة تصوِّت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح المشروع العربي بالوقف الفوري لإطلاق النار في غزة.
الإعلامُ الغربي أُجبرَ على تغيير بوصلته، وإن لم يكن بشكلٍ كامل، ولكنه انصاعَ للأصوات التي ضجت في كل مكان لتفضح ازدواجيةَ معاييره.
في قلب الأمم المتحدة، رأينا موقفًا شجاعًا من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فعلى الرغم من أنه أدان بشدة هجومَ حماس على إسرائيل، لكنه ذكر في الوقت نفسه أنه لم يأت «من فراغ»، وأن الفلسطينيين عانوا من «احتلالٍ قمعي» من قِبل إسرائيل لعقودٍ من الزمن وأن إسرائيلَ ارتكبت «انتهاكاتٍ ضد القانون الإنساني الدولي في غزة»، وهو التصريحُ الذي أصاب الإسرائيليون بالجنون ودفعهم إلى المطالبة باستقالته.
وشهدت قاعة الأمم المتحدة أيضا، صفعةً أخرى للإسرائيليين، عندما ضجت القاعةُ بالتصفيق في ختام كلمة مندوب فلسطين بالأمم المتحدة الوزير رياض منصور، خلال الجلسة الطارئة للأمم المتحدة، فيما خرج المندوبُ الإسرائيليُّ جلعاد إردان من نفس القاعة وسط صمتٍ مدقع، في دليل على فشل إسرائيل من جديد على ترويج ادعاءاتها على العالم.
واشنطن التي سارعت على لسان رئيسها بايدن بدعمِ وحشية إسرائيل، تقوم بذلك ليس دفاعًا عن دميتها، ولكن من أجل رغبة هذا الرجل غير المتزن في البحث عن انتصار واهٍ قد يمكِّنه هو أو حزبه من الفوز في انتخابات أمريكية قادمة.
المصارحةُ تقتضي منا أيضا أن ننظرَ بوضوح إلى الصورة بعيدًا عن الرتوش، فإذا كانت حماسُ قد اعترفت بأن إيرانَ كانت الداعمَ الرئيس لها في التسليح، لكن على الفلسطينيين وفي المقدمة منهم حماس أن يدركوا أن طهرانَ كانت ومازالت لا تهدف إلا إلى تحقيق مصالحها، حتى ولو على حسابِ دماء الأبرياء، وما رغبة إيران في توسيع رقعة الصراع إلا وسيلة منهم لتخفيف الضغوط عليهم، وللتغطية على فشلهم الاقتصادي داخليا، وإنهاء هذا الصراع لن يكونَ بالتصريحات التي يطلقها وزير خارجية إيران، والتي يسعى من خلالها لامتطاء صهوة المقاومة لتحسين صورة طهران المشوهة أصلا، وفضحت تصريحاتُ مندوب إيران في الأمم المتحدة أمير سعيد ايرواني الادعاءاتِ الإيرانية نفسها حينها قال: «إذا لم تهاجم إسرائيلُ طهرانَ ومصالحَها فلن تتدخلَ إيران في الصراع في غزة».
وهو ما دفع ممثل (حماس) في لبنان أحمد عبدالهادي إلى أن يقولَ لمجلة (نيوزويك): «نسقنا مع حزب الله ومع إيران قبل وأثناء وبعد هذه المعركة على أعلى المستويات؛ لكن تعرضنا على ما يبدو إلى خيانةٍ واضحة ووعودٍ كاذبة من إيران… نعم خيانة واضحة ووعود كاذبة»، أتريدون أكثرَ من هذا دليلا؟!
ويجب أن يرى الفلسطينيون الحقائقَ بوضوح، فبدلا من أن يصبوا جم غضبِهم على العواصمِ العربية، يجبُ أن يعلموا أن العربَ كانوا وما زالوا هم حائط الصد الأول والداعم الأكبر للأشقاء في فلسطين على مدار سنواتِ القضية.
وإذا كنا نطالبُ بأن تتغيرَ الوجوهُ الإسرائيليَّة المتورطة في الجرائم الوحشيَّة ضد الفلسطينيين، فيجبُ أن نؤكِّدَ أن أبناءَ فلسطين عليهم أيضا أن يتحدوا وراءَ قضيتهم وأن ينبذوا خلافاتهم وأن يوحِّدوا صوتهم في الدفاع عن حقوقهم، حتى نستطيعَ أن نصنعَ حلمًا جديدًا لطفلٍ فلسطينيِّ عاش طفولتَه يلعبُ لعبةَ «الشهيد»، بدلا من أن يعيشَ مستقبلا مليء بأحلام البناء.
* حنظلة هي أشهرُ الشخصيات التي رسمها ناجي العلي في كاريكاتيراته، ويمثل صبيًّا في العاشرة من عمره، وأصبح رمزًا للهوية والطفولة الفلسطينية.
* حنظلة بن أبي عامر هو من أشهر الشخصيات في التاريخ الإسلامي، وكان أحد شهداء غزوة أحد، ولُقِّبَ في كتب السيرة النبويَّة بـ (غسيل الملائكة)، لأنّ الملائكة هي التي غسّلته، بعد أن شارك في الغزوة صبيحة يوم عرسه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك